فلسفة كانط ووضع الحدود للنظر العقلي PDF
Document Details
Uploaded by Deleted User
Tags
Summary
هذا المستند يعرض لمحة عن فلسفة كانط، وتحديداً المرحلة النقدية ومناقشة حول حدود العقل في المعرفة. يسلط الضوء على كيفية تطوّر الفلسفة الغربية الحديثة، وتأثير كانط في إعادة النظر في قدرات العقل ووضعه تحت المجهر النقدي.
Full Transcript
### تمهيد : **كانط * ووضع الحدود للنظر العقلي** تطورت الفلسفة الغربية الحديثة بعد بيكون وديكارت في اتجاهين أساسيين أولهما : * الاتجاه التجريبي والذي أعطي للحواس قيمتها المعرفية وأقر الاستقراء التجريبي كمنهج للعلوم الطبيعية وقد تدعم هذا الاتجاه الذي بدأه بيكون في فلسفات كلا من توماس هوبز وجون...
### تمهيد : **كانط * ووضع الحدود للنظر العقلي** تطورت الفلسفة الغربية الحديثة بعد بيكون وديكارت في اتجاهين أساسيين أولهما : * الاتجاه التجريبي والذي أعطي للحواس قيمتها المعرفية وأقر الاستقراء التجريبي كمنهج للعلوم الطبيعية وقد تدعم هذا الاتجاه الذي بدأه بيكون في فلسفات كلا من توماس هوبز وجون لوك وديفيد هيوم وغيرهم من الفلاسفة الانجليز . وثانيهما : * الاتجاه العقلي الذي أرسى دعائمه ديكارت وتطور علي يد الكثيرين من تلاميذه والمعجبين بفلسفته من أمثال اسبينوزا وليببنتز وغيرهم ورغم الاختلاف في الرأي بين أنصار الاتجاهين بل وبين أنصار كل اتجاه منهما إلا أن القاسم المشترك الذي جمع فلاسفة هذا العصر. في القرنين السابع عشر. والثامن عشر. هو اعتزازهم الشديد بقيمة العقل وقيمة العلم وايمانهم بأن التقدم الانساني مرهون بمدى تقدم المعرفة العقلية والعلمية . ولد كانت في الثاني والعشرون من شهر ابريل في عام 1724 في المدينة البروسية كونجز برج - وهي تتبع الاتحاد السوفيتي الآن وقد تغير اسمها إلى كالينجراد وقد قضى حياته كلها في هذه المدينة. أما ابوه فكان رقيقي الحال يدينان بالمذهب التقوى البروتستانتي ونشأ نشأة دينية متزمتة كان لها تأثيرها الواضح على حياته وفلسفته فيما بعد وكان كانط في صغره طالبا نابغة وخصوصا في مرحلة الدراسة الجامعية وبعد أن أتم دراسته الجامعية عمل مدرسا بها سنة 1770 وظل يدرس طائفة من علوم عصره فكان يعلم فروع الفلسفة المختلفة والرياضية والطبيعة والانثروبولوجيا والتربية وموضوعات أخرى مما عطل ظهور أصالته الفكرية في وقت مبكر ففي عام 1781 وكان قد ناهز السابعة والخمسون من عمره حينما أصدر كتابه ( نقد العقل الخالص وهو اول كتاب في فلسفته النقدية وكان قد أصدر قبل ذلك عدة رسائل تعد كمحاولات أولية تكوين الم مراحل تطوره الفكري : * **المرحلة الثانية : المرحلة النقدية 1770** ويؤرخ لها ببدء تعيين كانط أستاذا بالجامعة وهذا كان موقفه الفلسفي النهائي قد تبلور في وقد لاحظ كانط الذي عاش فيما بين عامي (1724-1804) علي معاصريه أمرين هامين : أولهما مغالاتهم في الاعلاء من قدرة العقل حيث تصوروا أن بإمكان العقل الانساني أن يصل في معارفه اليقينية إلى مالانهاية . وثانيهما أن العالم الطبيعي يخلو من القوانين العقلية الضرورية والكلية . ولقد بذل كانط جهدا كبيرا في كتابه "نقد العقل الخالص " في بيان تهافت هذين الأمرين وفي التأكيد علي أن للعقل الانساني حدودا ينبغي ألا يتجاوزها وإلا غاب اليقين وضاعت الحقيقة . ومن جانب أخر فقد أكد علي أن العالم الطبيعي ليس كما يتصوره غالبية الفلاسفة التجريبين خلوا من القوانين العقلية الضرورية والكلية بل أنه في نظر كانط ملئ بهذه القوانين التي يقع علي العقل مهمة اكتشافها . ذهنه هذا الموقف الذي جمع فيه بين المذهب العقلي والمذهب الحسي. واسماه بالفلسفة النقدية وفي هذه المرحلة ظهرت أعظم كتب كانط الفلسفية على الإطلاق فظهر نقد العقل الخاص 1781) ثم نقد العقل العملي 1788 يبين لنا ما الذي يجب عمله في ميدان الأخلاق وما الذي نأمله من وراء الدين كموضوع للأيمان الاعتقادي أما نقد الحكم فظهر في سنة 1797 وهو يتضمن آراء كانط في علم الحياة هذه هي الكتب الثلاث الرئيسية التي تتضمن فلسفة كانط النقدية نقد العقل النظري ونقد العقل العملي ونقد الحكم ثم تلا ذلك مؤلفه مقدمة لكل ميتافيزيقا يمكن أن تصير علما وكذلك مؤلفه تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق ورسالة بعنوان "رسالة في السلام الدائم 1795 . وفاة كانط : في الثاني عشر من فبراير 1804 توفى الفيلسوف فحضر أهالي مدينته لوداعه وحمله الطلبة على الأعناق وصلوا عليه في كنيسة الجامعة حيث أقاموا تمثالا له، ودفن في المدفن الملحق بالجامعة الذي يعرف باسم قبة الأستاذ. وفي 1904 احتفلت الجامعة بمرور مائة عام على وفاة كانط ونقل جثمانه تحت الأعمدة الخارجية لكاتدرائية كونجسبرج ونقشت على قبره عبارته المشهورة شيئان يملان نفس إعجابا : السماء المرصعة بالنجوم فوق رأس والقانون الأخلاقي في قلبي. ولقد كان السؤال الذي كثيرا ما راود كانط وجعله يقدم فلسفته النقدية التي غيرت وجه الفلسفة في العصر الحديث ووضعت العقل لأول مرة تحت مجهر النقد ، لقد كان السؤال هو : إلى أي مدى يمكن أن نثق بالعقل ونطمئن إلي قدرته في الوصول إلي يقين يشبه اليقين العلمي في المعارف الرياضية والفيزيائية ؟ وبالطبع فإن كانط لم يسأل هذا السؤال إلا بعد أن لاحظ أن هذه العلوم قد تقدمت ووصلت إلي حد كبير من اليقين المصحوب بالادلة العقلية والتجريبية بينما وجد أن الفلسفة لاتزال في مكانها لم تتقدم خطوة إلي الامام وخاصة في مجال بحث القضايا الميتافيزيقية من أمثال وجود الله ، ومعني النفس ومصيرها .... الخ تلك القضايا التي يتناقش حولها الفلاسفة ويختلفون في الرأي دون أن يصلوا إلي حل واضح لها بل ودون أن يتقدموا فيها خطوة إلي الامام ولم يكن أمامه بعد أن لاحظ مأزق الفلسفة وتقدم العلوم إلا أن يضع العقل ومعارفه تحت مجهر البحث الدقيق لعله يصل إلي إجابة واضحة عن ذلك السؤال وبالطبع فإن العقل هنا هو الذي يمتحن العقل أي أن العقل عند كانط هو الذي سيضع حدودا لمعرفته عن طريق وضع الضوابط التي تمكنه من الوصول إلي معارف يقينية وتبعده عن الشطط (1) إن الاجابة علي التساؤل السابق تتطلب أولا أن نحدد كيف تم التطور في العلوم أو بمعنى آخر نحدد شروط المعرفة العلمية الصحيحة وإذا ما تم لنا هذا يمكننا بعد ذلك أن ننظر في المعرفة الفلسفية محاولين حدها بهذه الشروط مع الاخذ في الاعتبار تميز المعرفة الفلسفية عن المعرفة العلمية . . تحليل المعرفة العلمية : يري كانط أننا لو عمدنا إلي تحليل المعرفة العلمية الحقة لوجدنا أنها تقوم علي مجموعة من الاحكام التي تحتمل الصدق أو الكذب وهذه الاحكام تنقسم إلى قسمين تحليلية وتركيبية ، الأولي موضوعها يتضمن محمولها وشاهد الصدق فيها هو إتساقها مع نفسها بحيث تكون صادقة إذا كانت متسقة كاذبة إذا كانت غير متسقة مع نفسها . وميزة هذا النوع من الأحكام هو عنصر الضرورة الذي يربط بين محمولها وموضوعها فالقول مثلا أن الاجسام ممتدة . " في هذه الحالة نستخرج فكرة الامتداد من فكرة الجسم . وما دام المحمول متضمنا منذ البداية في الموضوع فإن الحكم التحليلي إنما يستند إلي مبدأ الهوية أو الذاتية الذي يقرر أن ( أ ) هي ( أ ) وأنه لا يمكن لها ألا تكون أ 1 ) د/ مصطفي النشار : مدخل جديد للفلسفة ص 149 وعيب هذه الاحكام أنها تحصيل حاصل بمعني أن المحمول فيها لا يضيف جديد إلي الموضوع ومن ثم فإن العلم إذا قام عليها وحدها فإنه لن يتقدم . النوع الثاني : الأحكام التركيبية أو التجريبية : والتي يضيف فيها المحمول جديدا إلي الموضوع وهذه هي ميزة هذه الاحكام . أما عيبها فهو أنها أحكام ليست ضرورية مثال ذلك : القول بأن الحديد يتمدد بالحرارة مثلا فهذا القول يعبر عن حكم تركيبي تجريبي يضيف فيه المحمول وهو التمدد بالحرارة شئ جديد للموضوع وهو الحديد ولكن العلاقة هنا بين الموضوع والمحمول ليست ضرورية إذ من الممكن أن نجد بعض قطع الحديد لا تتمدد بالحرارة وذلك عكس الحال في الاحكام التحليلية التي تكون علاقة المحمول بالموضوع علاقة ضرورية ليس فيها استثناء لحالة واحدة منها . يخلص كانط إلي أنه لكل من هذين النوعين مزايا ومساؤي والعلم لا يمكن أن يقوم علي أي منهما منفردا ولقد أخطأ العقليون الذين قرروا أن العلم يقوم علي الاحكام التحليلية وحدها إذ لو قام العلم علي هذه الاحكام لاتصف حقيقة بأنه ضروري ولكنه لن يستطيع أن يتقدم لان هذه الاحكام لا تأتي بجديد كما أخطأ التجريبيون الذين يقررون أن العلم يقوم علي الأحكام التركيبية وحدها إذ لو قام العلم على هذا النوع من الاحكام لفقدت القوانين العلمية صفة الضرورة . والواقع أن دراسة كانط للاحكام التحليلية والاحكام التركيبية قد ادت به إلي رفض تفسير كلا من العقليين والتجريبيين علي التوالي لنوع الحكم الذي يعتمد عليه العلم . . الأحكام التركيبية الأولية في العلم : يري كانط أنه إذا أريد للعلم أن يكون ضروريا وواقعيا في الآن نفسه فلابد له لابد لأحكام العلم من أن تكون تأليفية تكسبنا معلومات جديدة عن الموضوع مع كونها في الوقت نفسه أولية ضرورية كلية يوقعنا إنكارها في التناقض والواقع أن هذا النوع من الاحكام موجود في كلا من الهندسة والحساب والفيزياء ففي ميدان الهندسة نجد أن قضية الخط المستقيم هو أقصر. مسافة بين نقطتين تعبر عن حكم تحليلي لان العلاقة بين المحمول وهو أقصر. مسافة بين نقطتين والموضوع وهو الخط المستقيم علاقة ضرورية بحيث لا تكون هذه المسافة غير ذلك . ولكن المحمول هنا ليس مستخرج من الموضوع وليس جزءا منه ومن ثم فإنه يضيف جديدا إلى معلوماته مما يجعل من هذه القضية أو هذا الحكم تركيبي أيضا ، وهكذا الحال في أحكام الحساب والفيزياء ففي ميدان الحساب +2+42 هذا حكم تحليلي تركيبي أيضا فهو تحليلي لان العلاقة بين محموله وموضوعه علاقة ضرورية وهو تركيبي أيضا من حيث أن المحمول وهو 4 ليس مستمدا من الموضوع كما هو الحال في الاحكام التحليلية . وهكذا ينتهي كانط إلي أن العلم لابد أن تكون أحكامه ضرورية ولكي يتقدم ويأتي بالجديد لابد من أن يقوم على أحكام تحليلية تركيبية في نفس الوقت فالمشكلة النقدية تنحصر في بحث إمكانية هذا النوع من الاحكام التي تجمع بين صفة الأولية من ناحية وصفة التأليف من ناحية أخري كيف تكون هذه الاحكام ممكنة ؟ ورأي كانط أن مشكلة الميتافيزيقا هي مشكلة أي علم : أعني كيف يمكن أن تكون مبادئها ضرورية وكلية من ناحية ومن ناحية أخري تتضمن علما بالواقع وتزود الباحث بإمكان المزيد من المعرفة أكثر مما يعلم ؟ وتبين لكانط أن الجواب عن هذا السؤال يكمن في الاحكام التركيبية القبلية. كما اكتشف كانط في ذلك الوقت أن هذا الجمع بين ماهو أولي أو أولاني وبين ما هو تأليفي هو سبب التقدم العلمي وسر الانتصارات التي يحققها العلم يوما بعد يوم والتي من شأنها الاسهام في إرتقاء الانسان ورفاهيته . وإذا كان ذلك كذلك بالنسبة للعلوم فهل يمكن للفلسفة أن تتوقف عن التخيلات العقلية الميتافيزيقية بما ينتج عنها من تناقضات ومن اختلاف في الاراء والرؤي بين الفلاسفة وأن تقدم معرفة يقينية للانسان .؟ . نقد الفلسفات السابقة وشروط الفلسفة المشروعة : لقد وجد كانط أن فشل الفلسفات السابقة إنما كان سببه الأول هو أنها قدمت آراء ومذاهب لا تقبل المراجعة ولا التحقق في دنيا الواقع الذي يعيشه معظم الناس وذلك لان الفلاسفة قد اعتادوا علي ألا يعبأوا بمتطلبات الواقع أو الاحتكام إليه . وإذا ما أردنا للفلسفة أن تتقدم وأن تشترك في دنيا الناس بتعميق نظرتهم للوجود وللحياة فلابد أن يلتزم الفيلسوف بحدود هذا الوجود الواقعي الذي أسماه كانط : عالم التجربة أو عالم الظواهر ميز كانط بين عالمين : عالم التجربة أو عالم الظواهر وهو العالم الذي ينبغي للفيلسوف أن يتقيد بحدوده وأن يعمل كل أدواته المعرفية للتعرف عليه وفهمه ووضع نتائج محددة لهذه المعرفة وعالم الشئ في ذاته : وهو عالم مقابل للعالم الأول إنه ذلك العالم الذي يشتمل علي كل ماوراء هذا العالم الطبيعي ويتضمن كل ما ينأي بنا عن المعرفة الدقيقة . إنه ذلك العالم الممتلئ بالموضوعات التي كثيرا ما تناقش حولها الفلاسفة دون أن يصلوا إلي شئ واضح بشأنها مثل موضوع وجود الله ووجود النفس وطبيعتها ومصيرها .... الخ وهذه هي موضوعات الفلسفة الميتافيزيقية التقليدية التي رأي كانط استحالة أن يصل الفلاسفة إلي يقين بصددها لانهم وببساطة لا يستطيعون أن يلتقوا بالله في حياتهم وفي تجربتهم الحسية علي نحو ما يلتقون بأي ظاهرة من الظواهر في هذا العالم . كما أن أحدهم لن يستطيع مطلقا أن يجزم بأنه عرف بصورة مباشرة ما يسمي بالنفس كما لا يستطيع أن يجزم بشئ قاطع حول مصيرها أو حول خلودها .......... الخ . لقد طالب كانط الفلاسفة بأن يكفوا عن البحث النظري في هذه الموضوعات وأن لا يتجرأوا علي الخوض في عالم الاشياء في ذاتها وليس معني ذلك أن كانط يتخذ موقفا سلبيا من هذه الموضوعات لانه كما سنري جعلها من مسلمات العقل العملي " وكان هو نفسه مؤمنا شديد الايمان بوجود إله وبوجود النفس . الخ كل ما هنالك أنه أراد أن يضع حدودا للعقل الانساني حتي لا يتجاوزها ويخوض فيما لا يستطيع بصدده أن يصل إلي أي يقين . لقد أراد كانط إذن أن يجعل ميدان البحث الفلسفي كميدان البحث العلمي هو عالم الظواهر وإذا ما التزم الفلاسفة بذلك فإنهم سيقدمون في نظره الفلسفة أو الميتافيزيقا المشروعة التي تتقيد بحدود العالم الطبيعي والتجربة الانسانية ولعل السؤال الذي يराودنا الان هو : كيف نصل إلي هذه المعرفة الفلسفية المشروعة في إطار عالم الظواهر وبما تتميز هذه المعرفة عن المعرفة العلمية ؟. لكي يجيبنا كانط علي ذلك السؤال ميز كانط في العقل الانساني بين نمطين من التفكير أولهما : التفكير الذي يقيد نفسه بحدود عالم الظواهر ولا يتعدى حدوده ويقوم بهذا النوع من التفكير " ملكة الذهن أو الفهم "من العقل الانساني وثانيهما : التفكير الذي يتعدي تلك الحدود ويتطاول علي" عالم الاشياء في ذاتها ". ويقوم بهذا النوع من التفكير العقل ذاته أو ما يسميه كانط العقل "السوفسطائي ." وقد قصد كانط من هذا التمييز بيان الفرق بين الميتافيزيقا أو الفلسفة المشروعة وبين الميتا فيزيقا غير المشروعة . " فالفلسفة المشروعة" هي ناتج الفهم الذي نتوصل إليه بأذهاننا لعالمنا هذا أو على الاقل لما يتبدى لنا من هذا العالم . أما "الفلسفة غير المشروعة وهي التي انتقدها كانط نتيجة حدوس "العقل " عن عالم الاشياء في ذاتها وهو عالم خارج حدود هذا العالم الطبيعي ولا يقع بأي حال تحت خبرتنا الحسية ومن ثم فلا يمكن التيقن من صحة تلك الحدوس أو التأملات أو بالاحري الشطحات التي يقدمها العقل بصدده . • حدود الفلسفة المشروعة وكيفيتها : وإذا ما استبعدنا الميتافيزيقا غير المشروعة وركزنا انتباهنا حول الميتافيزيقا أو الفلسفة المشروعة وتساءلنا كيف نصل إليها وماهي شروطها وحدودها ؟ لأجابنا كانط بأن نقطة البدء في هذه الفلسفة بعد أن يتعهد الفيلسوف بالالتزام بحدود عالم الظواهر ولا يحاول تخطيه إلى ما ورائه هو أن ندرك حقيقة هامة أكدها فيلسوفنا ويؤمن بها وهي أن الموضوعات لكي تعرف لنا فلابد أن تدخل في إطار التصورات والمبادئ التي تملكها أذهاننا . أي أن معرفتنا بالعالم الخارجي عالم الطواهر لا تتم إلا إذا استطعنا أن نلملم شتات الاشياء ونفرض عليها النظام والوحدة بفضل ما لدي أذهاننا من تصورات ومبادئ نطلق عليها إسم "المقولات ". إن هذه الحقيقة السابقة التي يؤمن بها كانط ويطالبنا بالاعتقاد فيها هي علي حد تعبيره بمثابة ثورة في تاريخ الفلسفة شبيهة بالثورة الكوبرنيقية في تاريخ العلم الطبيعي وذلك لأن الفلاسفة فيما قبله كانوا يرون أن الموضوعات الخارجية لها وجودها المستقل عن أذهاننا التي نعرفها وأن المعرفة بهذه الموضوعات إنما هي مجرد محاكاة سلبية لها . بينما يري كانط عكس ذلك تماما حيث يؤكد أن تلك الموضوعات حينما تعرف من قبلنا فإنها لا تكون لها وجودها المستقل بل تكون موجودة بحسب ما عرفناه منها وعنه فالمعرفة الانسانية - في نظر كانط بمثابة شرط لوجود تلك الاشياء الخارجية كما أن تلك الاشياء وما يبدو لنا منها هي حدود تلك المعرفة . وإذا ما أدركنا الامرين السابقين لأمكننا أن نتساءل عن كيفية الوصول إلى معرفة يقينية شبيهة بالمعرفة العلمية بعالم الظواهر الذي يمثل المجال المتاح أمام ملكة الفهم الانسانية إن هذه المعرفة المشروعة تتم بواسطة ملكة الفهم " التي تفرز المقولات أو المبادئ العقلية التي هي أشبه بالوعاء الذي تنتظم داخله الاشياء الخارجية المدركة عن طريق الحواس وبمساعدة ملكة أخري يطلق عليها كانط " الحساسية الخالصة " وهي ملكة وسط بين الحواس الخمسة التي ندرك بواسطنها الاشياء بطريقة حسية مباشرة وبين ملكة الفم أو الذهن الذي يبدع المقولات والمبادئ العقلية التي تنتظم بداخلها إدراكاتنا الحسية عن تلك الاشياء. إن هذه الملكة "الحساسية الخالصة إنما يقتصر دورها علي إدراك صورتا المكان والزمان وإذا ما تسائلنا عن السبب الذي جعل كانط يبتدع الحديث عن هذه الملكة وأن ينسب لها هذا الدور الهام في عملية المعرفة لكانت الاجابة أنه أراد أن يبعدنا عن مذهبين أثنين تحدثا من قبل عن طبيعة المكان وطبيعة الزمان هما المذهب العقلي المتطرف والمذهب الحسي التجريبي فأنصار المذهب العقلي كانوا يعتبرون أن المكان والزمان إنما هما تصورات عقلية مجردة . بينما كان أنصار المذهب الحسي. يرون أنهما أشياء كالاشياء الحسية الموجودة في الطبيعة . بل هما صورنان أولانييتان لاهما بالحسيين الخالصين ولا بالعقليين الخالصين فلهما السمة العقلية حيث أنهما أولانيان ولهما السمة التجريبية . خلاصة القول فيما يتعلق بموقف كانط من المكان والزمان لم يوافق كانط نيوتن على أن للمكان والزمان وجودهما الواقعي المطلق مستقلين عن الانسان والأشياء كما لم يوافق ليبنتز على أن يكونا مجرد علاقات بين الأشياء وإنما يرى كانط : أن المكان والزمان من الناحية التجريبية واقعيان موضوعيان ومن الناحية الترنسند نتالية (مثاليان). واقعیان موضوعیان : بمعنى أنهما عنصر. مشترك في كل إدراك إنساني بلا استثناء لا نسبية فيهما بالنسبة إلى مختلف الأشخاص . وبالتالي فهما ليسا من خلق الخيال لأنهما لو كان كذلك كان يمكن لإنسان ما أن يدرك الأشياء الجزئية في علاقات مكانية وزمانية ولإنسان أخر أن يدرك تلك الأشياء في غير تلك العلاقات لكن الإدراك الحسي. الإنساني لعالم الأشياء الجزئية إنما هو مشروط دائما بالتحديد المكاني الزماني ومن ثم فالمكان والزمان ليسا من خلق الخيال وانما واقعيان موضوعيان المكان والزمان من الناحية الترنسند نتالية مثاليان : بمعنى أن لهما وجوداً واقعيا إذا أدخلنا الشروط الذاتية للخبرة فإذا استبعدنا هذه الشروط الذاتية فلا وجود لمكان أو زمان . لأنهما تتعلقان بادراك الكيفية التي نعرف بها كل ما في العالم المحسوس (1) إن ما يريد كانط قوله ببساطة هو أننا بهذه الحساسية الخالصة التي أقرب ما تكون إلى نوع من الحدس الحسي أي الحدس المتعلق بالعالم المحسوس وبأشياءه الحسية ندرك المكان والزمان باعتبارهما صورتان حسيتان ضروريتان للمعرفة الإنسانية ، فالمكان هو صورة أولية لادراك مواضع الاشياء وتجاورها . أما الزمان فهو صورة أولية لادراك تعاقب الاشياء 1 ) انظر د. محمود زيدان : كانط وفلسفته النظرية ، ص 102 الناجمة عن شعورنا أو احساسنا بأن ظاهرة ما تأتي سابقة أو لاحقة بالنسبة لظاهرة أخري . وإذا ما تم جمع شتات الاحساسات المشتتة المبعثرة المبهمة المضطربة كالالوان والطعوم والاحجام والروائح التي تقدمها لنا حواسنا عن الاشياء والموضوعات الخارجية ووضعها في إطار المكان والزمان اللذان تم فيهما إدراك هذه الاحساسات المبعثرة لكان بإمكاننا بعد ذلك أن ننظم هذه المادة المعرفية باستخدام مقولاتنا الذهنية مثل مقولة الوحدة والكثرة ومقولة العلية أو السببية وغيرها من المقولات أو المبادئ التي لا يمكن أن تتم معرفة انسانية يقينية إلا باستخدامها ووضع كل خبراتنا الحسية السلبقة حول الظواهر في إطارها إن المقولات إذن هي الاطر العقلية التي التي تؤطر كل معارفنا الحسية المحدودة بزمان ومكان معينين في إطارها . والحقيقة أننا في نظر كانط لانستطيع أن نفكر بدون هذه المقولات التي بفضلها ندخل علي شتات الاحساسات التي جمعناها بواسطة الحواس نظاما ووحدة واتساقا فالاحساسات مجرد انفعالات نحس بها حينما نتصل بالاشياء من خلال الحواس أما الفكر فلابد أن يكون فاعلا أي لابد أن يفرض الوحدة والنظام من خلال مقولات الذهن علي تلك الانفعالات فتصبح معرفتنا معرفة دقيقة مترابطة الاجزاء متسقة غير متناقضة . وهذا هو كل ما بطلبه كانط في الفلسفة المشروعة إنها فلسفة تصب جل اهتمامها علي تفسير عالم الطواهر وفهمه باستخدام مقولات الذهن وفي حدود صورتي المكان والزمان وإذا ما فعل الفلاسفة ذلك لأدركوا حقيقة عالم الظواهر الذي يدعوه كانط "عالم الاشياء كما تبدو لنا . وفرق كبير بين عالم الاشياء في ذاتها الذي حذرنا كانط من أن نخوض فيه وأن نبحث عن يقين حوله وبين عالم الاشياء كما تبدو لنا ، فهو العالم الذي نبنيه من خلال معرفتنا التي تبدأ بإحساسات مشوشة مبعثرة نفرض عليها النظام والوحدة من خلال صورتي المكان والزمان والمقولات الذهنية التي تحول الشتات إلي وحدة وتحول الفوضي إلي نظام إنه عالم الظواهر أو عالم التجربة المؤطرة بالاطر العقلية أو عالم التجربة المعقولة إذا ماجاز التعبير ولنلاحظ هنا كيف تجمع معرفتنا بهذا العالم بين الاولانية والتأليفية وهما خاصيتا للمعرفة العلمية اللتين أحرزا من خلال الجمع بينهما العلم تقدمه وانتصاراته وهكذا يمكن للفلسفة أن تقوم بنفس الدور إذا ما التزم الفلاسفة بالاطار العام لعالم التجربة أو عالم الظواهر المؤطر بصورتي المكان والزمان وبشروط المعرفة العلمية التي حددها كانط وهي مزيج من الخبرة الحسية والمقولات العقلية . . مسلمات العقل العملي : . إن التمييز الكانطي السابق بين عالم الاشياء في ذاتها وعالم الاشياء كما تبدو لنا وقصر كانط البحث الفلسفي علي العالم الثاني دون الاول يثير سؤالا ضروريا هو هل أصبح محرما علي الانسان أن يبحث فيما وراء هذا العالم أو بمعني آخر هل لم يعد من حق الفيلسوف أن يبحث في العالم الاول عالم الاشياء في ذاتها ؟؟ لكي يجيبنا كانط علي هذا السؤال ميز بين العقل النظري وبين العقل العملي وحدد مهمة العقل النظري بالحدود التي عرفناها فيما سبق لكي يحد من شطحاته وتخيلاته ومن جرأته على تناول الموضوعات الماورائية الاشياء في ذاتها ) . أما العقل العملي فقد جعل مهمته التسليم بهذه الموضوعات أي التسليم بوجود الله وبوجود النفس وبخلودها . فالانسان في نظر كانط لا يمكنه أن يعيش حياته السوية إلا إذا آمن بمجموعة من المبادئ والقيم التي تهديه إلى السلوك الاخلاقي القويم وهذه الحياة الاخلاقية القويمة إنما تقتضي. أن يسلم كلا منا بوجود الله وبوجود النفس وبأن ثمة حياة أخري بعد هذه الحياة سيلقي فيها الانسان الثواب أو العقاب . زمن ثم نقل كانط هذه الموضوعات من موضوعات للتفكير النظري إلى موضوعات ينبغي للانسان أن يسلم بها تسليما وأن يؤمن بها إيمانا قلبيا وذلك لسببين : الاول : أنه مهما تناقش الفلاسفة حول هذه الموضوعات فلن يصلوا إلي أي يقين سواء بإثبات وجودها أو بنفيه كما أشرنا فحجج من يؤمنون بالله وبوجود النفس وبتميزها عن الجسم وبخلودها يرادفها حجج من ينكرون هذا الوجود أما السبب الثاني : أننا نحتاج في حياتنا الاخلاقية ال عملية إلى الاعتقاد في وجود الله ووجود النفس ومن ثم فإن علينا أن نؤمن بهذه الحقائق ونسلم بها تسليما يفرضه علينا العقل العملي الذي ندبربح حياتنا العملية والاخلاقية