مقدمة في تاريخ وفلسفة العلم PDF
Document Details
Uploaded by ReceptiveArtDeco8452
كلية العلوم بجامعة طنطا
محمد لبيب سالم
Tags
Summary
This book, "مقدمة في تاريخ وفلسفة العلم", by Dr. Muhammad Lubab Salem, discusses the history and philosophy of science. It explores the development of scientific thought, methodologies, and the relationship between various scientific disciplines. The book delves into the historical context of scientific discoveries and the philosophical underpinnings of scientific inquiry.
Full Transcript
مقدمة في تاريخ وفلسفة العلوم ا.د.محمد لبيب سالم جامعة طنطا كلية العلوم مقدمة في تاريخ وفلسفة العلم أ.د.محمد لبيب سالم أستاذ علم المناعة كلية العلوم جامعة طنطا 1 ...
مقدمة في تاريخ وفلسفة العلوم ا.د.محمد لبيب سالم جامعة طنطا كلية العلوم مقدمة في تاريخ وفلسفة العلم أ.د.محمد لبيب سالم أستاذ علم المناعة كلية العلوم جامعة طنطا 1 اهداء أهدي هذا العمل المتواضع إلى كل رجال العلم الذين وهبوا حياتهم على مر العصور لكي يعبدوا الطريق ويمهدوه لغرس النظريات والمفاهيم والقوانين العلمية التي جعلتنا نعيش اال عصر العولمة العلمية بما فيها من تقدم هائل في تكنولوجيا المعلومات وانترنت األشياء والذكاء االصطناعي الذي جعل العالم يعيش في منزل واحد. 2 فصول الكتاب مقدمة الجزء األول: البحث العلمي وتاريخ العلوم الجزء الثاني: فلسفة العلوم ومنهج البحث العلمي 3 مقدمة العلم هو ما وصل إلينا من معرفة مدونة وموثقة بناء على تجارب البحوث العلمية لما سبقونا من العلماء في كل أنحاء العالم من الماضي وحتى وقتنا الحاضر.أما البحث العلمي فهو عملية نشطة يقوم بها الباحثين لإلجابة على أسئلة لم يتم طرحها من قبل وذلك باستخدام أسلوب المنهج العلمي الرصين. أما الوظيفة الرئيسية للبحث العلمي فهي محاولة الكشف عن معلومة جديدة بذاتها أو إضافة معلومة جديدة لتكمل مفهوم معلومة سابقة.ويتعلق البحث العلمي بمحاولة فهم كيفية عمل مكونات الكون من جماد ونبات وحيوان وانسان وفلسفة طبيعة العالقة بينهم على مدار التاريخ. ولذلك ،فالعلم ،بما فيه العلم الحديث ،يحتاج إلى دراسة تاريخه لمعرفة تطوره عبر العصور المختلفة منذ نشأته.كما أنه يحتاج أيضا إلى دراسة فلسفة مناهجه التي تمثل الروح التي تدب فيه لتعطيه الحياة.والعالقة بين تاريخ العلم وفلسفة العلم عالقة تزاوج وال ينفصالن.ومن الممكن تشبيه "تاريخ العلم" بالجهاز الهيكلي للجسم و "فلسفة العلوم" بوظائف األجهزة المختلفة للجسم والمنهج الذي تتبعه فلسفة العلم بعقل العلم. والتعرف على تاريخ العلوم مهم جدا باعتباره خارطة طريق توضح أماكن توالد العلم ،ومن كان وراؤه من رجال ،ومتي كان الزمان ،لكي تتعلم منه األجيال جيل بعد جيل فتضيف عليه وتطوره ،لمواجهة القضايا العلمية التي تواجهنا أو سوف تواجهنا في المستقبل القريب أو البعيد. ولذلك ،من هنا ،فوجب على المجتمع العلمي في كل مكان وزمان بغض النظر عن مدي تقدمه العلمي ،أن يتتبع مراحل تطوره مند نشأته ،لكي يقف على كيفية نموه وتدرجه عبر العصور ،حتى وصلنا إلى النموذج الذي نعرفه اليوم.فإذا كان تاريخ العلوم يعتبر جزءا مهما من تراث الطبيعي والتاريخي للعالم ،فانه ايضا تراثا مهما لكل دولة شاركت فيه عبر األزمنة السالفة أو المعاصرة مما يزيد من انتماء األجيال لمجتمعاتها ويعمق ويؤصل من ازالة الحدود بين الثقافات ويساعد على انصهار الشعوب خاصة في زمن وسائل التواصل االجتماعي التي جعلت المجتمعات الدولية باختالف لغاتها وكأنها مجتمعة واحدا مصلحته ،واحده، واهتماماته ،واحدة. ودراسة تاريخ العلم تجعلنا على دراية ووعي ليس فقط بتطور العلوم عبر العصور ،ولكن األهم فهم سياق هذا التطور واألسباب التي كانت وراء القفزات الكبري التي حدثت في أوقات وأماكن بعينها والتي أدت إلى تحوالت كبري في كم ونوع العلوم حتى وصلنا إلى ما نحن عليه اآلن من تكنولوجيا متطورة لن يصدقها السابقون لو رأوها. كما تساعدنا دراسة تاريخ العلم علي إدراك ما مر به العلماء السابقون من صعوبات وتحديات وأحيانا اضطهادات وأذي نفس وصل في بعض الحاالت إلى أحكام بالنفي واإلعدام.وسوف يعلمنا أيضا كيف تغلب هؤالء العلماء على تلك التحديات دفاعا عن مبادئهم العلمية ايمانا بها وحرصا عليها من الضياع حتى تصل ليد ألجيال التالية ليبنوا عليها ويستفيدوا منها.وتعلمنا دراسة التاريخ أيضًا دور رجال السياسة ،والدين، والمال ،واالقتصاد ،والحروب ،واألمراض ،والتكتالت الدولية ،في نوعية العلم واتجاهاته ومنتجاته.ومع أن هناك الكثير من الدروس األخرى الكثيرة المستفادة من دراسة تاريخ العلم ،إال أن األهم أنه يضع أمام أعيننا وعقولنا الخبرات المتراكمة التي نستطيع أن نتعلم منها ونحن نخطط لمشروعات الحاضر والمستقبل فنتجنب األخطاء ونستفيد من النجاحات. 4 وفوق كل ذلك ،تعطينا دراسة تاريخ العلم طاقة إيجابية هائلة وروح وهمة عالية لالستمرار في طريق العلم وتحمل الصعوبات خاصة أن ما تحت أيدينا من أدوات العلم يفوق بكثير ك ًما ونوعًا ما كان متاحا للسابقين. ويكفي أننا عندما نقرأ تاريخ العلم نشعر بعظيم الشكر واالمتنان للعلماء الذين سبقونا وحققوا إنجازات واكتشافات علمية كبيرة في ظروف كانت شديدة الصعوبة ،خاصة وأن الكثير منهم لم يحصل على شكر أو تقدير أو جوائز إال بعد وفاته بعقود ،بل على النقيض كان معظمهم يعاني أشد المعاناة وهو على قيد الحياة. أما دراسة فلسفة العلم فتعلمنا التفكير العلمي بما يحتويه من تفكير منطقي نستطيع به تحديد المشكالت ووضع الفرضيات وتصميم التجارب التصميم المناسب في وجود المدخالت المناسبة التي تساعدنا على الحصول على المخرجات المتوقعة.فبدون الوعي بفلسفة العلم يصبح المشتغل بالعلم بال روح وبال رؤية وبال رسالة ،بل وبال هوية وتصبح النتائج المتحصل عليها بال فائدة كبيرة. فدراسة فلسفة العلم تجعلنا قادرون على طرح السؤال المناسب وافتراض اإلجابة المناسبة وتحقيق هذه اإلجابة باستخدام المنهج العلمي األفضل.كما أن دراسة فلسفة العلوم تجعلنا نُبحر ونغوص في أعماق األفكار وتجعلنا قادرون على ربطها سويا بحبال الفكر والمنطق لنحصل على عالقات جديدة ومبتكرة لم نكن نفكر فيها من قبل أن ندرك طبيعة ووظيفة فلسفة العلوم. ومع أن فلسفة العلوم تمثل أحيانًا نوع من المضاربة أو المراهنة العلمية المقبولة ،إال أنها في معظم الحاالت تقف على أرض صلبة من القياسات والدالئل المتعارف عليها.ولكن تظل أحد الفوائد الكبري لدراسة فلسفة العلوم أنها تجعلنا على دراية بالمدارس العلمية المختلفة السابقة والمعاصرة ،ومدي توافقها وتضاربها، واألسباب وراء هذا التوافق أو التضارب.كما أن وضع هذه المدارس العلمية المختلفة لفلسفة العلوم بين أيدينا بما فيها تلك التي أصبحت مستقرة ومعلومة للجميع تساعدنا على اختيار المنهج العلمي المناسب في البحث العلمي الحديث.وفي نفس الوقت ،يستطيع المتخصصون في فلسفة العلوم تطوير هذه المناهج العلمية بطريقة ديناميكية في ضوء المستجدات العلمية. ولذلك فدراسة فلسفة العلوم جنبًا إلى جنب مع تاريخ العلوم لهو مطلب في غاية األهمية.فتاريخ فلسفة العلوم جزء ال يتجزأ من تاريخ العلوم ككل.وأنا شخص ًيا أري أن دراسة فلسفة العلوم في الوقت المعاصر أصبحت ضرورية عما قبل ،بل أصبحت وجوبية. وعلي عكس صفة الموسوعية لعلماء العصور السابقة حيث كان العالم موسوعة علمية في التخصصات العلمية المختلفة ،أصبحت التخصصية الشديدة في العلوم من سمات علماء هذا العصر وذلك نتيجة للتطور العلمي الكبير في الجزيئات.وقد أدت هذه التخصصية إلى إهمال اإللمام بفلسفة العلوم عند الكثير من العلماء وكأن فلسفة العلوم أصبحت مجرد تخصص دقيق ال تشغل بال إال دارسيه.ونسي معظم الباحثون أن فلسفة العلوم هي روح وعقل كل العلوم سواء كانت علوم أساسية أو تطبيقية أو علوم إنسانية.فبدون فلسفة العلوم يصبح العلم بال عقل وبال لون أو طعم أو رائحة خاصة بعد أن أصبح من النادر حدوث االكتشافات العلمية التي تحدث بالصدفة التي ال تحتاج بذاتها إلى فلسفة العلوم. فعندما تفكر في أمور العلم بفلسفة تصبح فيلسوفا علميا قادرا على طرح األسئلة خارج الصندوق ويصبح عقل وعقل من يعمل معك عقالً متوهجا مبتكرا وأحيانًا متمردًا.وتلك الصفات هي التي يجب أن يتحلى بها الباحث العلمي الذي يبحث عن اإلبداع واالبتكار في كل صوره. ولم يفرق هللا بين العقل حسب اللون والعرق والجنس ،واللغة ،والزمان ،والمكان.ولكن ما يتغير هو الفكر اإلنساني في تعقل وتدبر األشياء طبقا للتراكمات الفكرية التي يمر بها عبر العصور.وما أدل على ذلك هو 5 النمو الفكري الهائل في العصر الحاضر من معلوماتية وتكنولوجيا نتيجة تراكمات المعرفة التي تم انتاجها في العصور السابقة.ويكفي أن القرن األخير وخاصة الخمسون عاما األخيرة شهدت تطورا هائال في كم االكتشافات العلمية التي تم ترجمتها إلى خدمة اإلنسان والحيوان والنبات.كل ذلك كان بفضل العلم وبروح فلسفة العلوم وعقول العلماء المبدعين والمبتكرين عبر العصور. وبالطبع كان لإلسالم دورا محوريا في رقي الفكر اإلنساني ،ولكن تزامن هذا الدور مع ازدهار الحضارة اإلسالمية في مهدها ثم تراجع وانزوي لقرون طويلة حتى جاءت بعض الدول وعلى رأسها مصر في عهد محمد علي لتشارك وبقوة في بناء وتطوير وتشكيل الفكر اإلنساني.ولكن هذه المشاركة انحصرت في معظم األحوال على نقل التكنولوجيا والذي ال يرقي إال الطموح المطلوب. تاريخ العلوم -مثله مثل التاريخ السياسي واالقتصادي والرياضي والثقافي -يمثل جزءا ال يتجزأ من تاريخ اإلنسانية ككل ،حيث إن جميع األمم على مر العصور قد ساهمت في مراحله المختلفة ولو بدرجات متفاوتة. ويكفي أن تاريخ العلوم يعكس درجة ارتقاء اإلنسان بعقله ومستوى إدراكه ألهمية المعرفة وتطبيقاتها لخدمة المجتمع االنساني فالعلم ال يعترف بالحدود ،وال اللغة ،وال الدين ،وال العادات والتقاليد.ولذلك نري عند قراءة تاريخ العلوم ،ارتباطا وثيقا بين تاريخ حضارات اإلنسان عبر آالف السنين ،ليصبح في النهاية تراثا مشتركا لإلنسانية كلها. وألن التقدم في العلم يرتبط دائما بفلسفة العلوم سواء في فهمه أو ادراكه أو تطبيقاته ،فسوف يتكشف لدينا أن فلسفة العلوم معنية في جزء كبير منها بتتبع نمو المفاهيم واألفكار العلمية التي قدمها العلماء من نظريات واكتشافات علمية على مدار التاريخ ،وفق منهج علمي يعتمد علي وضع الحقائق في نصابها المقبول منطقيا . وأخذا في االعتبار هذه األهمية الكبيرة لدراسة ً كال من تاريخ وفلسفة العلم ،كانت الفكرة وراء هذا الكتاب بمثابة مقدمة لكل منهما جنبًا إلى جنب.وقد خصصت الجزء األول من الكتاب كمقدمة عن مفهوم العلم وتاريخ العلم ،والجزء الثاني مقدمة عن فلسفة العلوم ومناهج البحث العلمي وخاصة المنهج االستنباطي واالستقرائي. المؤلف د.محمد لبيب 6 مفهوم البحث العلمي وفلسفة العلم يؤلف جماعة اجتماعية محددة ،وهو أكثر من أن يكون ِّمهنة ،وهو لم يكن موجودًا على الدوام؛ بل إن العلم ِّ ً عمره يتراوح ما بين خمسة وعشرين وثالثين قرنا ،هذا إذا ربطنا نشأته بنشأة علم الفلك عند اليونان، َ ُ ويقصر هذا العمر فيبلغ ثالثة أو أربعة قرون ،إذا رأينا أنه بدأ مع ظهور علم الطبيعة الحديث ،وال يرجع تأثير العلم ونفوذه اإال إلى القرن الثامن عشر ،وهو ينطوي على مجموعة من المبادئ التي ينقُلها التعليم من جي ٍل ً متصال شك بالمعنى الصحيح ،وإن كانت ت ُعدال أحيانًا ،بحيث يظ ُّل تقدُّم العلم إلى جيل ،وال ت ُصبح موضوعًا ألي ٍ مستمرا.وقد عبر باسكال عن العلم بقوله إن العلم من الدين ،ولكن األهم من ذلك أنه عقيدة ،والعا ِّلم قد أقسم ٍ و يمين الوالء لعد ٍد ُمعين من المبادئ. ومن أهم تصنيفات العلوم التي اشتهرت عبر تاريخ نشأة العلوم وتطورها ثالث تصنيفات أساسية هي: أ -التصنيف الفلسفي :وهو عند اليونان ويعتمد على المنطقة والتفكير الفلسفي ويمثله كل من أفالطون بتصنيفه الثنائي للعلوم (علم المحسوسات) و (علم المعقوالت) ،وأرسطو بتصنيفه الثالثي للعلوم (العلوم النظرية) و (العلوم العملية) و (العلوم اإلنتاجية). ب -التصنيف الشرعي :التصنيف اإلسالمي علماء المسلمين ويعتمد هذا التصنيف على أساس مصدر العلوم ويمثله كل من الخوارزمي بتصنيفه الثنائي للعلوم (العلوم العربية) و (العلوم األعجمية) ،وابن خلدون بتصنيفه الثنائي (علوم نقلية) و (علوم عقلية). ج -التصنيف العشري :وهو عند علماء الغرب على أساس طبيعة المعارف البشرية وتاريخ ظهورها عبر التاريخ ،وهو تصنيف حديث ويمثله ملفل ديوي حيث صنف العلوم إلى عشرة (المعارف العامة ،فلسفة ديانات ،علوم اجتماعية ،اللغات ،علوم طبيعية ،علوم تطبيقية ،فنون ،آداب ،التاريخ). تاريخ العلم في الحضارات القديمة ومفهوم الفلسفة إذا ما تحدثنا عن العلم فهو يُعتبر ظاهرة حضارية عملت على بناء األمم على مدى عقو ٍد من الزمن ،وجاهد ت كثيرة على إيصاله وتعميمه ،حتى أصبح العلم ظاهرة ُمساهمة في بناء المجتمعات علماء كُثر في تخصصا ٍ من خالل البناء المعرفي لإلنسان ،وتكوين عقله ،وتغيير ،واقعه. وإذا ما تحدثنا عن الفلسفة والعلم معا ً فهما يمثالن حلقة وصل ورابطة قوية ،حيث يستطيع الفالسفة التأثير نظام علمي إلى نظام آخر. ٍ بأنظمتهم الفلسفية في بناء المعرفة العلمية ،والتغيير من وترتبط دائما ً التغيرات األساسية في العلم -على مدى قرون من الزمن -باألُسس الفلسفية ومن هذا ال ُم ْنطلق أصبحت فلسفة العلم مفهوم ال ينفصل عن األبعاد التاريخية لظاهرة العلم. العلم في الشرق العربي 7 بدأت ظاهرة العلم من حكماء الشرق القديم -بشهادات مؤرخين كُثر -الذين كانوا بُناة الحضارة اإلنسانية األولى ،ومؤسسي العلوم التجريبية ،حيث أنشئوا علوم الرياضيات ،والفلك ،والكيمياء ،والطب. وكانت العراق هي منبع هؤالء الحكماء ،حيث اخترع العراقيون الكتابة ،وأسسوا المدارس ،ودرسوا الخط، وحفظوا اللغة ،وتعمقوا في العلوم كافة ،وتأملوا الطبيعة وظواهرها ،وناقشوا الكون من وجهات فلسفية مثل: «الخلق والموت والخلود والخير والشر» ،وغيرها من تلك الموضوعات ذات الطابع الفلسفي. الرؤية العلمية في اليونان اشتهر ال ِّفكْر اليوناني بالعالقة الوثيقة بين العلم والفلسفة ،حيث وجدوا أنه ال يُمكن الفصل بينهما.ونتيجة لذلك تعمق اليونانيون في دراسات الفلك ،والطبيعة ،والحياة ،والطب. أما كلمة علم نفسها فهي تعني« المعرفة ال ُم ْطلقة »سوا ًء أكانت ُمستمدة من الحواس ،أم من العقل ومبادئه. أما الفلسفة؛ فهي تعني« المعرفة البشرية». ظهر في اليونان ما يُعرف بـ «المذهب األيوني» وهو أول المذاهب الفلسفية التي بُنيت على أساس« االتجاه التجريبي العلمي» ،وضم مجموعة من العلماء الذين بحثوا وتعمقوا في مجال الطبيعة ،وبحثوا في نظام نشأة الكون وخرجوا بنتيجة واحدة وهي أن كل شيء في العالم له أصل بداية واحد ،وأن ال شيء يأتي من ال شيء، وأن الموجودات حولنا ال تنعدم مهما طال زمانها. ضم هذا المذهب عددا ً من الفالسفة العلماء البارزين وكان أولهم «طاليس »524 – 624الذي ع ََرف أن كل شيء حي يأتي من الماء ،وكان على دراية بالسجالت البابلية التي توضح ظاهرة كسوف الشمس ،وكان لديه نطاق عام. ٍ أفكاره عن إمكانية تطبيق القواعد الهندسية على وثاني هؤالء الفالسفة هو «أنكسيمندر »547 – 610قبل الميالد الذي توصل إلى أن أصل كل شيء عبارة عن مادة ال شكل لها وال حد وال نهاية ،وهي مزيج من العناصر كلها التي خرجت منه كافة الكائنات الحية، وهو تجمع ال نهائي للمادة يمتد في كافة االتجاهات. واعتقد أيضا ً أن الحياة نشأت في الماء وتطورت من شك ٍل آلخر حتى وصلت إلينا ،وتصور تطور الكون واألحياء ووجود عوالم مختلفة حولنا ال نعرفها. ثالث هؤالء الفالسفة هو «أنكسيمانس »524 – 588قبل الميالد ،الذي بحث في نشأة الكون والمادة ،وكان يقول بأن الهواء هو المادة األولى التي تكونت منها األشياء عن طريق التكاثف والتخلخل. كانت الفلسفة اليونانية قائمة على التفكر في نشأة الكون ،وتفسير ظواهره حتى بزغ ما عُرف بــ« االتجاه دن يونانية قديمة جنوب إيطاليا ،وتمثل هذا االتجاه في مدرستي «الفيثاغورثية، العقلي التأملي »في ُم ٍ والمدرسة اإليلية». بنظام مشترك حيث يشتغلون في ٍ ويُعرف الفيثاغورثيون بأنهم جماعة دينية ،علمية ،سياسية ،يعملون الرياضيات ،والفلك والموسيقى ويعتقدون أن العلم أفضل وسيلة« لتهذيب األخالق». 8 أسس هذه الجماعة «فيثاغورس »497 – 572قبل الميالد ،وارتكزت المدرسة الفيثاغورثية على أنها مدرسة علمية اهتمت بشك ٍل رئيسي بالرياضيات ،وجعلته علما ً بذاته ،حيث أهملوا أصل الوجود المادي وبحثوا عن حقيقته في النسب الرياضية ،والصفات المتضادة وخرجوا بنتيجة واحدة وهي: أن العالم عدد ونَغَم ،وأن هذا العدد هو العنصر الذي تتكون منه جميع الموجودات ،واستخرجوا من األعداد جداول الحسابات والهندسة وناقشوا الظواهر الفلكية ،وخرجوا بنتيجة وهي أن األرض والكواكب« كروية». العلم المعاصر أصبح القرن العشرين هو قرن الثورة العلمية التي فتحت المجال للعلم واتساع نطاقه إلى ح ٍد كبير ،وحظيت اإلنجازات العلمية التي تحققت بأهمية كبرى ،وبذلك أصبح للعلم مكانة جوهرية في حياتنا. أدى ذلك إلى عدة تغيرات جذرية كان أولها هو زيادة المعرفة البشرية ،وظهور األبحاث العلمية ال ُمختلفة في كافة المجاالت ،وتحقق أهم اإلنجازات العلمية في هذا القرن بإنجاز مشروع الطاقة الذرية على يد العالم «ألبرت آينشتاين»؛ ومعاونيه وهو ما عُرف بـ «مشروع مانهاتن – «Manhattan Projectالذي أنفقت عليه الواليات المتحدة أمواالً طائلة. نتج عن هذا المشروع ظهور السالح النووي والقنبلة الذرية التي استخدمت في الحرب العالمية الثانية ،كما أحدثا تغيرا ً في المنظومة الدولية ،فتطورت األسلحة في الميدان العسكري من القنابل الذرية إلى القنابل الهيدروجينية ،وهكذا نشأ ميزان الرعب النووي بين الواليات المتحدة األمريكية واالتحاد السوفياتي. أما التحول الثاني للعلم خالل القرن العشرين فتمثل في ظهور علم التحكم اآللي «السبرانية «Cybernetics-على يد العالم «نوربرت فينر» - Norbert Wienerالذي كانت أبحاثه هي األساس األول الختراع العقول اإللكترونية. أما اإلنجاز العلمي الثالث الذي تحقق فتمثل في «غزو الفضاء» ،وهو إنجاز ارتبط باإلنجازين السابقين – إنجاز الطاقة الذرية والعقول اإللكترونية – وبدأت الحضارة البشرية بعدة محاوالت في غزو الفضاء ،كان أولها من االتحاد السوفيتي الذي افتتح عصر السفن الفضائية؛ والتي يتم إطالقها بصواريخ قوية من قواعد أرضية. كما كان التحول الهام؛ هو إطالق القمر الصناعي «سبنوتنيك »1عام ،1957وبرنامج إنزال أول إنسان على القمر عام .1969 لكن برغم هذه اإلنجازات العظيمة للعلم وأن هدفه األساسي هو خدمة اإلنسانية وتسخير اإلنسان لعقله من أجل خدمة اإلنسانية إال أنه وبصور ٍة ما أحدث تحوالً في النزعة اإلنسانية ،وأصبح الهدف المنشود منه ُمسيسا ً. فعلى سبيل المثال كان لهذه االختراعات العلمية أهدافا ً سياسية لجها ٍ ت بعينها ،فالقنبلة الذرية تم اختراعها وكانت سبب الحرب العالمية الثانية ،كما أن االختراعات العلمية في مجال غزو الفضاء واختراع السفن الفضائية تمت في إطار الصراع بين قطبي النظام الدولي خالل فترة الثنائية القطبية. 9 وإذا ما تحدثنا عن األبعاد االجتماعية للعلم ال ُمعاصر ،فإن العلم ليس ظاهرة ُمنعزلة تنمو بقدرتها الذاتية وتسير بقوة دفعها الخاصة ،لكنه يتفاعل مع المحيط والمجتمع الذي يظهر فيه بصور ٍة ما. وبعبارة أخرى فإن هناك بُعد اجتماعي يؤثر على العلم ،وهناك تأثير ُمتبادل بين العلم وبين أوضاع المجتمع الذي يظهر فيه. وبالتالي؛ يحتاج العلم أو االختراع العلمي إلى تضافر عاملين مهمين وهما؛ (الحاجة االجتماعية ،والعبقرية الذهنية. و ِّكال العامالن يرتبط نجاحهما ببعضهما ،فالعلم حينما يظهر البد أن يكون المجتمع مهيأ لقبوله حتى يكتب له النجاح. حيث أن هناك عباقرة نبغوا في العلم ،إال أن المجتمعات لم تكن مهيأة لقبولهم ،ونجد ذلك في حالة ابن خلدون الذي أشار في مقدمته المشهورة – مقدمة ابن خلدون – إلى المقومات الرئيسية للدراسة العلمية للمجتمع البشري والتي أسماها بــ «علم العمران» وهي عبارة عن آراء ترددت لدى علماء االجتماع في الغرب. لكن نبوغ ابن خلدون لم يجد مجتمعا ً يستجيب له ،ونتيجة لذلك لم تستمر حركة العلم الجديد الذي توصل إليه عبر تالميذ نقلوا منه علمه ،أو عبر علماء أكملوا مسيرته.وكانت عبقريته مثل شعلة ساطعة انطفأت بسرعة، إذ أن نبوغ ابن خلدون لم يُكتشف إال بعد مرور عدة قرون من الزمن. ومثال ابن خلدون هذا ،يجعلنا ننتقل إلى ضرورة تسليط الضوء على سمات المجتمع الذي يظهر فيه العلم، حيث أن العلم اكتسب أهمية كبرى في حياتنا ،وأصبح عامل حاسم في تحديد مصير البشرية في القرن الـ ،21 والذي ال يُعرف إلى أي مدى سينقلنا. 10 البنية التاريخية للمنهج العلمي ال نستطيع أن نقدم شيئا في فلسفة العلم بدون العودة التفصيلية إلى تاريخ العلم.فقد كان "توماس صاموئيل كون" أكبر فيلسوف علمي في القرن العشرين ،ولكنه كان أيضا مؤرخا للعلم.كان فيزيائيا نظريا واستوحي من تأريخه للعلم فلسفته الخاصة في العلم وهي فلسفة مشهورة جدا.وحتى المنهج العلمي الذي تعتمد عليه الفلسفة العلمية فهو غير ثابت وال يتوقف عند مرحلة علمية معينة ،بل يطور نفسه ولو ببطء عبر التاريخ. ولذلك فالمنهج العلمي يتصف بالتأريخ أي له تاريخ ولذلك ال يمكن فصل تاريخ المنهج العلمي عن تاريخ العلم. وعندما نتحدث عن البنية التاريخية للمنهج العلمي ،فانه من الممكن تقسيم تاريخ إنتاج المعرفة إلى ثالث مراحل رئيسية. المرحلة األسطورية: وهي المرحلة التي امتدت آلالف السنين (من 10آالف قبل الميالد إلى حوالي 600قبل الميالد).وتتمثل تلك المرحلة في الحضارات القديمة المشهورة مثل الحضارة المصرية القديمة والحضارة البابلية واالشورية في العراق وسوريا والحضارة اليونانية والحضارة في بالد الجزيرة العربية وخاصة اليمن والحضارة الفارسية في بالد الفرس (إيران حاليا) وبالد الروم (إيطاليا حاليا) ...إلخ. وعلينا أال نستهين باألسطورة ألنها كانت – كما قال فراس السواح – مغامرة العقل األولي ،يعني كانت أول محاولة من نوعها لربط الظاهرات الطبيعية ببعضها لفهم الظاهرات الطبيعية.ومع ان العالم المعاصر قد تخطي تلك المرحلة ويعتبرها من تاريخ العلم إال أنها كانت مرحلة مهمة في تاريخ البشرية لكونها حجر األساس الذي بني عليها العلماء علومهم عبر العصور التي تلت تلك المرحلة. وقد اعتمدت المرحلة األسطورية على محاولة تفسير الظواهر الطبيعية المختلفة مثل أصول البراكين والزالزل واألرض والكون بداللة اآللهة وغيرها من الكائنات األسطورية مثل الحوريات أو شبه اإلنسانية.ونستطيع القول إن هذه مرحلة كانت خصبة فنيا وأدبيا ،حيث كانت األسطورة هي المرجعية. المرحلة الفلسفية (الميتافيزيقية): وهي المرحلة التي كانت سائدة حوالي 600قبل الميالد حيث بدأ يظهر نمط جديد للتعامل مع الطبيعة أو التفكير فيها.فقد ظهر منهج جديد للتفكير في الطبيعة ،حيث أصبحت هناك محاوالت إلسقاط العقل اإلنساني على الطبيعة من خالل تفسير ظواهر الطبيعة بداللة المبادئ العقلية البحتة الفلسفية والجمالية واألخالقية بدال من األسطورة. عند اليونان ،بشكل خاص عند منطقة أيونيا ،التي تقع عند الساحل الغربي ألسيا الصغرى ،والتي تسمي تركيا اليوم ،عند مدينة ملطية (باألدبيات األوروبية ،ميلتوس) ،هناك نشأ هذا النمط الجديد من التفكير والذي أسسه طاليس (أسس ما يسمي بفلسفة الطبيعة) ،يعني التفكير الفلسفي في الطبيعة. األيونيون خرج منهم عدد مثال طاليس ،انكسمندر ،انكسمنيز ،هيركليتوز ،ايبمدوكليس ،ديموقراطيس (صاحب النظرية الذرية) ولكن لم تصلنا أعمالهم.هؤالء فالسفة الطبيعة األوائل ال نعرف عنهم إال القليل ،كل معلوماتنا عنهم من أفالطون ثم من خالل أرسطو الذي ذكرهم في كتبه االمر الذي يمثل أول شهادة لهذا النمط الجديد من التفكير. 11 ونستطيع هنا أن نميز بين المنهج األفالطوني والمنهج األرسطي بداللة الموقف من الحواس.فمع أن كالهما كان فالسفة طبيعة ،وارتكزوا إلى المبادئ العقلية الفلسفية والجمالية واألخالقية ،إال أن الفارق كان في العالقة مع الحواس والنظر لعالم الحواس الملموس ،عالم األلوان واألصوات واأللحان والمذاق والملمس ... إلخ.فمدرسة أفالطون قالت عالم الحواس معرفيا مرفوض ألنه خداع ال يعطينا معرفة ،ولذلك رفض أفالطون عالم الحواس كليا وليس جزئيا ،وقال عالم الحواس عبارة عن ظالل لألفكار والمثل.فهناك عالم المثل – العالم الحقيقي – وعالم الحواس مجرد ظالل لعالم المثل ،وعليه يجب التحرر من عالم الحواس لكي نصل إلى عالم المعرفة الحقيقية ،وهي معرفة المثل واألفكار والمبادئ. وقال أرسطو إن المعرفة الحقيقية هي المبادئ العقلية ،ولكن ال نصلها عن طريق الحواس وإنما برفض الحواس وتخطيها صوب الرياضيات.وعلي النقيض من ذلك فإن مدرسة أرسطو قد ركزت على المبادئ العقلية.فقد اعتبرها معرفة عليا مع اليقين بأن الحواس تعطينا أيضا معرفة ،أي أنه اعتبر أن عالم الحواس يقيني وهو األمر الذي يرفضه معظم الفيزيائيين. فعلي سبيل المثال ،مثال رأي أرسطو أن الشمس تتحرك في السماء بالنسبة إلى األرض فقال إن الشمس هي التي تتحرك واألرض ثابتة.وقد ظلت هذه النظرية مقبولة لعدة قرون طويلة حتى جاء كوبرنيكوس ومن بعده جاليليوا ليثبتوا عكس ذلك ويقدموا نظرية مركزية الشمس للكون وليس األرض كما كان يكن ارسطو. وقد رأي أيضا أن القوي تولد الحركة على سطح األرض الذي يوجد فيه احتكاك فقال إنه فعال القوة ترتبط بالسرعة ،ألنه اعتمد علي الحواس واعتبرها يقينية ،وقال بالنهاية أننا نقبل عالم الحواس من جهة وبالطبع لدينا هذه المبادئ وأقام جسرا بين هذه المبادئ وبين عالم الحواس عن طريق القياس المنطقي (باإلنجليزية: ،)Syllogismوهذا المنهج هو الذي ساد وليس منهج أفالطون. مقومات المنهج العلمي :كيف ناقض أفالطون وأرسطو؟ مشكلة عالم الحواس: لم يرفض عالم الحواس كما فعل أفالطون ،ولكنه لم يقبل عالم الحواس علي عالته كما فعل أرسطو ،وإنما قام بنقد عالم الحواس بالرياضيات أو األفكار المريضة أو النظرية المريضة باالرتباط بالتجارب الدقيقة والمشاهدات.ونظر إلي الحواس علي أنها أدوات قياس ،العين أداة قياس ،األذن أداة قياس ،الملمس أداة قياس ،السمع أداة قياس ...إلخ.كلها أدوات قياس ،ولكنه قياس غير دقيق. أشهر العلماء في المرحلة االولي طاليس ( ٥٤٥-٦٢٥ق.م :).اليوناني والذي زار مصر وعاد بالرياضيات المصرية إلى اليونانيين.ثم ديموقريطس ( ٤٢٠ق.م ).الفيلسوف من أصحاب المذهب الذري والذي يعتقد بأن الكون يحوي على عد ٍد هائل من الذرات الموجودة من قبل والتي تشكل كل األشياء سواء كانت حية أو ميته. افالطون ارسطو ( ٣٨٤ق.م). صاحب مقولة "كل الرجال بطبيعتهم يرغبون في المعرفة".وكانت فترة ارسطو تمثل تحوال نوعيا في التفكير وفي طريقة انتاج المعرفة والفلسفة.ورغم اختالف ارسطو مع عقائد أستاذه أفالطون (الذي توفي في ٣٤٧ ق.م ،).إال أنه كان يجله ويقدره ويتعلم منه ثم يضيف فكره الخاص بصبغته المختلفة ،فقد كان فيلسوفا مثل 12 استاذه افالطون ،ولكن بطريقة علمية تعتمد على مزج العلوم الطبيعية بالفلسفة وهو ما نطلق عليه حاليا (عا ِّل ًما).وقد تولي ارسطو تعليم االسكندر األكبر ليصبح حاكما ذو حي فلسفي. اقليدس (٢٦٠-٣٣٩ق.م). صاحب كتاب عناصر الهندسة ونظرية أن مجموع زوايا المثلث ١٨٠درجة.واراتو ستينس (١٩٢-٢٨٤ ق.م ).الذي قام بقياس محيط األرض بطريقة دقيقة وذكية وجديدة وهو يعمل في مكتبة االسكندرية اعتمدت على قياسه المسافة من االسكندرية الي اسوان وقت غروب وشروق الشمس.وكلوديوس بطليموس (-١٧٨ ١٠٠ق.م ).الذي عاش في مصر فترة طويلة وألف كتاب المجسطي عن مخططات النجوم والذي أحدث تطورا كبيرا في وصف النجوم في ذلك الوقت. جالينوس (٢١٠-١٢٩م) ال ُملقب بطبيب االمبراطور وهو الطبيب الروماني الذي قضي وقتا في مكتبة االسكندريةً بمصر والذي كان يتبع أبقراط استاذه الذي أطلق اخالقيات مهنة الطب على هيئة القسم الذي يردده األطباء عند تخرجهم من كلية الطب رغم أن الفارق بين جالينوس وابقراط ٥٠٠عام.واكتشف جالينوس قياس نبض المريض وأهمية العالج النفسي بجانب العالج العضوي. وما حدث أثناء االنتقال من العصور الوسطي (الظالم) إلى عصر النهضة العلمية واألدبية ،قاد أوروبا إلى المرحلة الثالثة وهي المرحلة العلمية. وقد ساد المنهج العلمي ألرسطو في العصور الوسطي سواء في منطقة الشرق األوسط أو في أوروبا أو في العالم.وبعبارة أخري نستطيع أن نقول إن أرسطو انتصر على أفالطون لمدة ألفي عام وساد منهجه – مع بعض التعديالت هنا وهناك.فمع أنه كان هناك نقد من الحضارة العربية اإلسالمية لمنهج أرسطو ،ولكن هذا النقد كان على مستوي ا لجزئيات ،ولذلك فلم يطح بمذهب أرسطو.وقد يفسر ذلك لماذا سيطر منهج أرسطو لقرون طويلة على عكس المنهج العلمي ألستاذه أفالطون الذي ظل مهمشا في هذه الحضارات. وظل منهج أرسطو مسيطرا في الحضارة الهلنستية والبيزنطية والعربية اإلسالمية واألوروبية في العصور الوسطي ،وظل هذا المنهج هو المنهج المالئم إلنتاج المعرفة (الثقة العمياء بالحواس وربط الحواس بالمبادئ العقلية).واستمر هذا الوضع حتى النصف الثاني من القرن السادس عشر في أوروبا ،حيث بدأ التحدي الحقيقي ،كان هناك نقد من علماء الحضارة اإلسالمية في ذلك الوقت.فقد نقد ابن سينا أرسطو والذي كان يتصف بأنه عقل جبار. وبسبب موقف ابن رشد والذي قام بتأييد أرسطو تأييدا تاما ،قام ابن باجه بمناظرة ابن رشد بسبب دفاعه عن أرسطو.وكذلك ،قامت مدرسة أكسفورد والسوربون في العصور الوسطي بنقد أرسطو ،ولكن لم يطح هذا النقد آنذاك بمدرسته.واستمر هذا الوضع إلى أن بدأت الثورة العلمية الكبرى عام 1543م عندما نشر كوبرنيكوس كتابه الرئيسي وانتهت 1687م عندما نشر نيوتن كتابه المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية، وهما لكتابين اللذين كان لهما إثر كبير في تجهر فلسفة العلم من مدرسة ارسطو التي استمرت لحوالي 2000 عام إلى مدرسة علمية جديدة. 13 وفي مطلع القرن السابع عشر ،دمر جاليليو نظرية أرسطو تماما بالرياضيات والتجربة ،بالتنظير الرياضي والتجربة الدقيقة والتجربة الفكرية أيضا.فقد استطاع أن يدحض نظرية أرسطو الكونية ،حيث غير المنهج تماما وجاء بمناهج جديدة مكنته من دحض ( )Refutationأرسطو وبطليموس وكل العلم القديم ،وآخرون– مع جاليليو – مثل نيوتن قد ساهموا في ذلك.ولذلك فالكثير يعتبر جاليليو أعظم فيزيائي في التاريخ خاصة أنه تعرض للمحكمة من قبل الكنيسة وتم تحديد اقامته في منزله حتى وفاته. ولذلك علينا في الوقع أن ننتج أدوات قياس أكثر دقة باستعمال العقل العلمي ،بدليل أن جاليليو ابتكر تليسكوب الخاص ووجهه نحو السماء وهو أول من فعل ذلك من أجل معرفة تركيب هذه السماوات.أي أنه لم يكتف بالحواس.ألن مجرد استخدام الحواس كأدوات هو بالطبع قياس غير دقيق ،لذلك لجأ جاليليو إلى أدوات القياس األكثر دقة.وعندما نظر بالتليسكوب رأي العجب.رأي أن درب التبانة عبارة عن عدد كبير من النجوم. رأي األربعة أقمار لكوكب المشتري.رأي البقع الشمسية وعرف ارتباطها بالشمس.رأي أن القمر عبارة عن صخرة كبيرة ال تختلف كثيرا عن األرض ...إلخ.رأي منازل الفينوس والزهرة وهكذا. وسمة تطور العلم بتطور أدوات القياس هي سمة أساسية للعلم ،وهي السمة التي بدأها جاليليو والتي كانت كشرارة االنطالق التي أدت إلى اختراع الميكروسكوب والذي من خالله ظهر قياس جديد للخلية الحية وما ترتب عليه من تطور هائل في علم البيولوجيا الخلوية والذي انتهي بما نحن عليه اآلن من علوم البيولوجية الجزيئية والجينوم والهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية.وفي هذا الصدد علينا أن نتذكر قول جاليليو "أن الطبيعة عبارة عن كتاب مفتوح وأحرفه مكونة من األشكال الهندسية واألرقام."،فقد وجد جاليليو هنا لغة العلم الحديث وهي لغة الرياضيات والهندسة المكتوبة في الطبيعة. ومن هنا يتضح أن هناك كان ترييض (استخدام الرياضيات) للطبيعة قبله ،مثال علم الفلك اليوناني العربي كان عليه طبع رياضي ،وكذلك علم الضوء الذي بناه الحسن بن الهيثم كان رياضيا.ولكن على عكس الماضي حيث كان الترييض محصور فقط في حركة األجرام السماوية والضوء ،فقد قام جاليليو بتعميم فلسفة الترييض هذه على الطبيعة بأكملها ،حيث استطاع ترييض الكون والمادة والحركة. 14 عشرة محطات في تاريخ العلم العلم يصنع المعرفة ويصنع التكنولوجيا ويغير من المفاهيم فيؤدي إلى ثقافات جديدة وسياسات مستجدة ومتجددة.فالعلم هو تلك الروح التي تسري في عقول العلماء لتبقي على تطور الحياة.العلم هو ذلك المارد والفانوس السحري الذي وقوده المعرفة ويحمله العلماء لينيروا به العالم ليتحكم فيه أهل الحكم .والعلم ليس هواي وليس بمهنة ،ولكنه حالة ثالثة تجمع بين الهواية والمهنة وما وراء الطبيعة.فالعالم الحق هو الوحيد الذي يعمل فيما وراء الطبيعة لكي يوظف الطبيعة والكيمياء والبيولوجيا لصالح اإلنسان . وأغلب الناس تقرأ تاريخ علماء بلدها على وجه الخصوص من باب الفخر بأبنائها خاصة في الدول النامية التي تعاني من تدني مستوي البحث العلمي مقارنة بالدول المتقدمة علميا.وبعض الناس تقرأ تاريخ العلوم فقط من باب القصص ،وهناك من يقرأ تاريخ العلوم من باب الثقافة العامة سواء كانت مطلوبة له أم ال. ورغم أن هذه االسباب الثالث مشروعة ألنها تزيد من الثقافة العلمية لدي صاحبها ،إال أن هناك أسباب أهم لقراءة هذا النوع من التاريخ سواء للمتخصص أو غير المتخصص.ونستطيع أن نسرد هذه االسباب العامة في النقاط التالية: نتعلم كيف تحدث االكتشافات ،وأنها ال تأتي نتعلم فجأة تأتى ،بل نتيجة جهد كبير ومتصل. -1 نتعلم اهمية الشغف العلمي وروح العلم لدي العلماء وكيفية تحليل النتائج وخاصة غير المتوقعة. -2 نتعلم كيف نفكر بمنهجية وبأسلوب منطقي وبدون حكم او رأى مسبق ،أو بتمني الحصول على نتيجة -3 معينة. قراءة تاريخ العلوم يعلمنا أن الفشل "خير" البد منه ،فستالحظ أن معظم العلماء حتى المشهورين -4 منهم تنجح جميع أبحاثهم والتي تنجح تسبقها محاوالت كثيرة مما يعكس روح المثابرة والعزيمة حتى الوصول إلى الهدف. قراءة تاريخ العلوم يعلمنا أن العلم نشاط إنساني تشترك فيه اإلنسانية كلها ،فال توجد جنسية أفضل -5 من جنسية ،كل الشعوب تشارك في التقدم العلمي ،فالعلم ليس له وطن وال دين وال لغة ،ولكن وطنه المعمل ولغته اللغة العلمية. قراءة تاريخ أي اكتشاف علمي تجعلنا نفهم هذا االكتشاف بطريقة أفضل وأعمق ،مما يساعد شباب -6 الباحثين وحتى الكبار منهم ليس فقط على تذوق العلم ،ولكن الهم تفاصيل االكتشافات وظروفها في ذلك الوقت مما يعطي خبرات كبيرة. تاريخ العلم يُعلمنا كيف كان العالم منذ آالف السنين وكيف تحول تدريجيا في كل قرن من القرون حتى -7 وصلنا من تكنولوجيا العصر الحجري إلى التكنولوجيا الرقمية رغم أن سمات اإلنسان هي نفس سماته.ويعلمنا تاريخ العلم أيضًا دور األمم المختلفة في العصور المختلفة واألماكن المختلفة في هذه النهضة الكبري من الحجر إلي الشريحة الذكية . يعلمنا تاريخ العلم أيضًا من هم هؤالء األفراد من العلماء والمفكرين المبدعين الذين حملوا على -8 عاتقهم وأعماقهم هذه المسيرة العلمية المتعاقبة والمسئولية الكبيرة في نقل وحفظ وتطوير المعرفة ومدي الصبر والتحمل والمعاناة التي تغلبوا عليها . 15 -9سوف نتعلم من تاريخ العلم دور المجتمع ودور الحكام ودور رجال الدين ،فكل كان له دور سواء بالسلب أو اإليجاب علي حسب الفترة الزمنية التي كان يمر بها العلم.فمنهم من ساعد العلماء ومنهم من أنكر العلم وظلم وعاقب العلماء ،ومنهم من احتكر العلم ونصب نفسه علماء . ومن قراءاتي في تاريخ العلم ،وجدت أنه قد مر بمراحل ما قبل التاريخ ومراحل متعاقبة ومحددة في الشرق والغرب ،والشمال والجنوب دون أن يتأثر بلغة ،أو بجنس ،أو بزمان ،أو مكان.بل هي مراحل تشبه تطور اآللة من مرحلة التفكير فيها عقليا ونظريا إلى صناعتها يدويا ،ثم ميكانيكا ،ثم آليًا ،ثم رقميا.وأستطيع من تلك القراءات المتواضعة أن ألخص مراحل تاريخ العلم إلي عشر مراحل متتابعة شاركت فيها معظم األمم. ثمان مراحل منهم رأيناها ،والمرحلة التاسعة منهم قد نبدأها ونعيشها في القريب.أما المرحلة العاشرة فهي قيد التنبؤ وهللا أعلم بها. - ١مرحلة الحضارة المصرية القديمة ( ٧االف عام قبل الميالد) اهتمت باكتشاف المفاهيم العلمية وتطبيقاتها في البناء والطب والزراعة والفلك والتي بقيت آثارها آالف السنين كالمعابد واألهرام والموميات والجداريات. وتزامن مع الحضارة المصرية القديمة حضارات كبري منها الحضارة الصينية ( ٤آالف ق.م ).والهندية (٣ آالف عام ق.م ).والفارسية ( ٥٥٠عام ق.م ).والبابلية (القرن ٦ -١٨ق.م ).واآلشورية (٦٠٠ - ٩٠٠ ق.م. ). -٢مرحلة الحضارة اإلغريقية (اليونانية من القرن ٩ق.م ٦ -بعد الميالد) اهتمت بتحويل المفاهيم العلمية ومنها التي توصل إليها القدماء المصريين إلى نظريات علمية رصينة استمرت آالف السنين وظلت تدرس كثيرا ألنها في الجامعات األوربية حتى عصر النهضة.ولم تضف الحضارة الرومانية ( ٢٧ق.م.إلى ٤٥٠م) ً ركزت على الفتوحات العسكرية في الشرق والغرب وبالد الهند . - ٣مرحلة الحضارة اإلسالمية (القرن ١٥ -٨م) في العصر الذهبي لإلسالم ارتكزت علميا في المقام األول علي نواتج الحضارة اليونانية والفارسية بعد ترجمتها ومعها الحضارات المصرية والهندية والصينية لت ُحرج ً طويال العالم حضارة علمية ثقافية معرفية بطعم خاص وعاشت أكثر من نصف قرن ،ولكن لم تدم آثارها باستثناء بعض الكتب مثل القانون في الطب البن سينا والذي كان يدرس في الجامعات األوروبية في عصر النهضة . - ٤مرحلة عصر النهضة األوروبية (القرن ١٧ - ١٤م) اعتمد على المفاهيم العلمية التطبيقية للحضارة المصرية القديمة والنظريات العلمية للحضارة اليونانية والتطبيقات التكنولوجية للحضارة اإلسالمية ليبزغ منها الثورة الصناعية الكبري. - ٥مرحلة عصر الثورة الصناعية (األولي والثانية) الكبري (القرن ١٩ - ١٨م) في أوروبا ارتكزت على االنجازات العلمية في عصر النهضة لتتجه إلى األبحاث التطبيقية وإلى اختراعات واكتشافات مهمة إلنتاج الطاقة من أجل التصنيع واآلالت الميكانيكية. - ٦مرحلة عصر الثورة الصناعية الثالثة (الثورة التكنولوجية النصف الثاني من القرن العشرين) اعتمدت على االنجازات الهائلة للثورة الصناعية األولي (القرن ١٨م) والثانية (القرن ١٩م) لتنتقل إلى االعتماد على الرقمنة ) (Digitizationوالمعا ِّلجات الدقيقة ،واإلنترنت ،وبرمجة اآلالت ،والشبكات.وكان من نتائج هذه الثورة ظهور الكمبيوتر الذي أحدث ثورةً في تخزين المعلومات ومعالجتها.وكذلك برمجة اآللة ورقمنتها ،ما جعلها تح ُّل شيئا ً فشيئا ً محل اليد العاملة.وقد ظهرت هذه الثورة في أوروبا وأمريكا ثم انتقلت إلى بالد الشرق مثل اليابان ،والصين ،وكوريا ،وتايوان. 16 - ٧مرحلة الثورة الصناعية الرابعة (القرن )٢٠وتسمي أيضا ً الثورة التكنولوجية والتي ارتكزت على انجازات الهائلة للثروة الصناعية الثالثة (الرقمية) لتتحول إلى ثورة معلوماتية هائلة غيرت العالم اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا صنعتها هي ليستعملها غيرها.وهذه الثورة الرابعة تمثل الرقمنة اإلبداعية القائمة على مزيج من االختراقات التقنية المتفاعلة عن طريق خوارزميات مبتكرة تمكن من دمج التقنيات المادية والرقمية ٍ والبيولوجية ،وطمس الخطوط الفاصلة بينها أدي إلى استخدامها داخل جسم اإلنسان والحيوان والنبات والجماد نفسه باستخدام تكنولوجيا الذكاء االصطناعي وإنترنت األشياء من خالل معالجة البيانات والمعلومات الكبرى. - ٨مرحلة الثورة الصناعية الخامسة (القرن )٢٢-٢١والتي أتوقع أنها سوف تؤدي إلى االستغناء تما ًما عن اإلنسان في التعليم وجميع األعمال بما فيها الطب والتعليم والهندسة والزراعة والقضاء ،وقصر مهام اإلنسان فقط على مراقبة أعمال اآلالت (الروبوتات) التي قد يتفوق ذكائها وإتقانها على ذكاء واتقان اإلنسان. - ٩مرحلة الثورة الصناعية السادسة (الذكاء االصطناعي الشامل) والتي أتوقع أن تحدث في القرن ٢٤-٢٣ والتي اتنبأ فيها بتحول العالم تما ًما إلى عالم ديجيتال (رقمي) وافتراضي ويغلب فيه التوجه لعقاب أو مكافأة مجتمعات بعينها طبقًا لمصالح السياسات الدولية ولو بأثر رجعي.فما عدا الغذاء والشراب فسوف يحصل عليه اإلنسان وهو في منزله عن طريق الذكاء االصطناعي . - ١٠مرحلة الصورة الصناعية السابعة (التحكم الكامل لآللة) سوف يعم في هذه المرحلة التحكم الكامل لآللة في حياة اإلنسان بما فيها مشاعره وقراراته الشخصية والعملية بحيث يصبح عبدًا لآللة ،فيصبح هو الذي يعمل لديها وهي التي تعطيه األوامر وتكتب عنه التقارير فيصبح فكره ومشاعره ملكا لآللة.ومن المتوقع أن يؤدي ذلك إلى ركود اقتصادي ومعرفي وثقافي هائل قد تكون أحد آثاره الجانبية تغلب اآللة على اإلنسان واحتكاره واحتقاره ،فيغضب عليها اإلنسان ويتمرد عليها ويقرر االنتقام لنفسه ليخلص من هذا القيد وهذا السجن الذي شيده بنفسه على هيئة آلة تتصرف بذاتها.وهنا يقرر اإلنسان أن يهدم نفسه وهدم المعبد بما ومن فيه مما قد يجعل العالم أجمع بما فيه العالم األمي أن يعود إلى الوراء لنقطة الصفر . وهنا إما أن يبدأ العالم رحلته العلمية من جديد بدون أي تكنولوجيا ،أو يكون اإلنسان قد وصل إلى نهايته الحتمية وتقوم القيامة . 17 العلوم عند العرب في العصر الذهبي (1258 – 750م) تميز العرب باللغة وخاصة النثر والنظم والشعر ،فلم تكن القصة والرواية من أولي اهتمامات العرب.فكانت ثقافة العرب قبل اإلسالم تتمثل في الشعر في المقام األول ،وكان سببا للشهرة ومدح اآلخرين أو رثائهم أو هجائهم والنيل منهم .وكانت الحضارة الفارسية والرومانية وآثار الحضارة المصرية القديمة واليونانية تحيط بالعرب من الشرق والغرب والشمال.ولكن لم يأخذ العرب من هذه الحضارات الكثير بسبب انشغالهم بالتجارة وحروب القبائل فيما بينهم . كثيرا بمن حولهم اللهم من خالل أسفار التجارة ورحلة الشتاء والصيف والتعامل ولذلك ،لم تتأثر ثقافة العرب ً مع الحجيج.فلم تكن لديهم حركة ترجمة أو تأليف أو نشاط علمي واسع يحسب لهم.وبالطبع لم تكن الطباعة معروفة بعد ،ولذلك كانوا يعتمدون على الحفظ أو الكتابة على الجلود والعظام . وبعد الفتح اإلسالمي ،انفتح المسلمون خاصة في نهاية العصر األموي وخالل العصر العباسي ،على التراث المعرفي اليوناني الذي كان مدونًا على هيئة كتب على عكس التراث المصري الذي كان مدونًا وبرمزية على جدران المعابد.حدثت خالل هاذين العصرين حركة ترجمة هائلة للكتب اليونانية وخاصة مؤلفات الفيلسوف الكبير أرسطو.وشارك في هذه الترجمة مئات من الكتاب والعلماء ًوكان أكثرهم من األعاجم (الموالي) من غير العرب مثل الخوارزمي ،ابن سينا وعبد هللا بن المقفع وغيرهم.ولم تتوقف هذه األنشطة على مجرد الترجمة ،بل امتدت إلى اإلضافة والنقد ثم التأليف الذاتي بعيدًا عن تراث الفالسفة اليونانيين.حتى أن زيادة كم ونوع النشاط تطلب انشاء بيت الحكمة ومكتبة بغداد الكبري . هذا النهم المعرفي الثقافي العلمي في كل فروع العلم خاصة الفلك والطب والصيدلة والنبات والحيوان والبيطرة والفلسفة كان وراؤه خلفاء بني أمية وبنو العباس أنفسهم والذين دعموا الترجمة والتأليف واألبحاث العلمية الرصينة ومنح العلماء مكانة عالية التي وصلت في بعض األحيان الي مكانة أعلي من مكانة الشعراء والمغنيين.وتحولت بغداد والكوفة والبصرة ودمشق والقاهرة وقرطبة ومراكش وبالد األندلس إلى مدن علمية ثقافية دولية أنارت أوروبا التي كانت تعاني آنذاك من الجهل وسيطرة الكنيسة . من هذا التاريخ المضيء ،أري أن الممكن ممكنًا بالفعل شريطة أن يكون هناك ً قرارا بذلك ،قرار سياسي ينفذه الكُتاب والعلماء بحماس وابداع كرسالة حياة وليس مجرد عمل مقابل رغيف العيش.األمة العربية تتمتع حاليًا بمميزات كبيرة من علم ومعرفة وثقافة ووجود جامعات ومراكز بحثية ودور كتب ومسارح ،ولكنها لألسف منبثقة من علم ومعرفة وثقافة الغرب الذي أنتجها وصدرها لنا منذ أن خفتت أضواء مشاعل المعرفة في الدولة العباسية والدولة األموية في األندلس في القرن الرابع عشر الميالدي وبدأ نور النهضة األوروبية يسطع والذي بزغ على آثار الحضارة اليونانية واإلسالمية . ً سبيال لثورة علمية معرفية ثم صناعية وتلك النهضة األوروبية والتي تحدت الكنيسة وأخذت العلم والمعرفة نفر قليل من وما ترتب عليها من للثورة التكنولوجية المعلوماتية التي نعيشها حال ًيا ،لم يكن ورائها سوي ٌ العلماء والمفكرين الكبار مثل كوبر نيكوس ،وشكسبير ،كبلر ،فيساليوس ،ديكارت ،المارك ،مندل ،داروين، جاليلو ،نيوتن وغيرهم . 18 وقد أحدث هؤالء المبدعين الذين لم يزد أعدادهم عن العشرة في كل فترة زمنية إلى نقلة نوعية جبارة في تاريخ األمة األوروبية رغم تعرض العديد منهم إلى النقد واألذى.وقد كان هؤالء السبب في نهضة أوروبا والتي مازالت نهضتها قائمة حتى اآلن على مدار ٦٠٠عام دون أن يخفت بريقها ،بل ازداد وتمدد نوعًا وك ًما إلى أمريكا وأستراليا ونيوزلندا بغض النظر عن أسلوب التمدد . ويؤكد لنا ذلك أن النهضة العلمية التكنولوجية ليست بكم المشتغلين بها ،بل بنوعية النخبة العلمية وكيفية احتوائها ماديًا ومعنويًا وأدبيًا ،بطريقة تتيح لهذه النخبة أن تعمل بإبداع واعتزاز كما فعلت الصين والهند. وإذا كان األمر الواقع اآلن يختلف عن الماضي في عصر النهضة العلمية في أوروبا وما قبله في العصر الذهبي لإلسالم ،إال أني أري أن معطيات الحاضر تجعلنا في موقف أفضل بسبب العلم المتاح والمعرفة المتاحة ليل نهار.كل ما نحتاجه نحن العرب هو التركيز على النوع وليس الكم ،وإيجاد نقاط للتميز والبعد عن اللهث وراء كل ما يقرره الغرب . ويشغل العالم العربي منطقة جغرافية واسعة تضم العديد من الدول في قارتي إفريقيا وآسيا.وما زال العالم المعاصر ينعم بالكثير من االبتكارات والمخترعات العلمية والتي يدين في الكثير منها إلى الحضارة العربية اإلسالمية ،التي نشطت فيها وازدهرت العديد من العلوم والمعارف وقدم فيها العرب للبشرية العديد من اإلبداعات.ومن أهم تلك العلوم كانت العلوم الحيوية والطبية التي أحرز فيها العرب والسلمون تقدما ً ملموسا ً خاصة في الفترة الذهبية الزدهار العلوم عندهم ما بين القرن الثامن والثالث عشر الميالدي. إن الخلفية التاريخية لمجد العالم العربي في العصر الذهبي لعلوم العرب قد قدمت االسالم حريص علي العلم وتطويره من خالل المساهمات البحثية التي قدمها علماء العلوم الطبية الحياتية.فقد أحرز العرب والمسلمون تقدما ً غير مسبوق في هذا الفرع من العلوم إبان الفترة الذهبية الممتدة ما بين القرن الثامن والثالث عشر الميالدي.ولقد امتدت آثار ذلك التقدم العلمي إلى أوروبا التي استفادت من إنجازات العرب والمسلمين في مجال ممارسة الطب وتدريسه.ويرجع الفضل في ازدهار العلوم عند العرب إلى جزيرة العرب حيث كانت بعثة النبي محمد --الذي عمل على توحيد قبائل العرب وجمعها تحت راية اإلسالم والتوحيد في بدايات القرن السابع الميالدي. كما كان لقيام الدولة اإلسالمية عام 622م بعد هجرة النبي --من مكة إلى المدينة أكبر األثر في انتشار رقعة اإلسالم على أجزاء كبيرة من المعمورة ،حيث تحقق هذا التوسع بعد قرن من وفاة النبي --عام 632 م ليشمل أجزاء كبيرة من الكرة األرضية تمتد من جنوب أوربا إلى شمال إفريقيا ومن منتصف آسيا والهند إلى إسبانيا ،والتي إن لم تكن خاضعة سياسيا ً تحت حكم وسيطرة العرب والمسلمين فقد كانت متأثرة إلى حد بعيد بثقافتهم وتراثهم. وفي عام 711م فتح العرب المسلمين جنوب اسبانيا وأنشأوا مركز إشعاع وازدهار حضاري في األندلس، كما أنشأوا مركز إشعاع آخر في بغداد إبان حكم العباسيين الذين حكموا أجزاء من العالم االسالمي خالل فترة زمنية عرفت الحقا ً بالعصر الذهبي ( 1258-750م). وقد استفاد العرب والمسلمون مما ورثته الحضارة اإلنسانية من معارف وعلوم كانت لدى األمم والحضارات األخرى كالحضارات المصرية واليهودية والفارسية واليونانية والرومانية ،حيث نشطت حركة الترجمة ونقل العلوم والمعارف من اللغات األخرى إلى اللغة العربية ،فكان أن دعي المترجمون إلى بغداد إبان حكم العباسيين حيث العلماء والباحثون الذين درسوا الماضي وصنعوا المستقبل.فنتائج أعمالهم حققت تقدم مؤثر في جميع 19 مجاالت العلوم.وفي محاولة من حكام أسبانيا االسالمية للتفوق على بغداد جندوا الدارسين الذين صنعوا مساهمات أعلي وهامة في العلوم والطب ،والتقنية ،والفلسفة ،والفن. لقد أسهمت عوامل عدة في ازدهار العلوم عند العرب والمسلمين.فآيات القرآن الكريم زاخرة بالحث على طلب العلم والتفكر في مكونات الكون والتعرف على معالمه وظواهره ،حتى أن ثلث آيات القرآن الكريم قد تحدثت عن الخلق والكون ومظاهر الطبيعة بشكل يستحث العقل المسلم على التفكر واالكتشاف. وقد أسهمت سهولة االتصال بين أطراف الدولة اإلسالمية المفتوحة والممتدة في أصقاع األرض في تسهيل انتقال العلوم والمعارف بين العلماء والباحثين والدارسين ،كما مكن اعتماد اللغة العربية كلغة واحدة مرجعية من تسريع حركة الترجمة إلى العربية من اللغات األخرى كاليونانية والالتينية والصينية وأزال الكثير من الحواجز أمام الدارسين والباحثين. وفي الفترة نفسها كان أن تعلم العرب صناعة الورق والكتب من الصين وأصبحت تلك الصناعة متاحة للباحثين العرب والمسلمين.فتأسست المكتبات في القاهرة وحلب وبغداد وأيضا مراكز مدنية في إيران ووسط أسيا وأسبانيا وفي هذه األثناء فتحت االالف من محالت الكتب ذات األسماء المختلفة في مدن مختلفة وفي النهاية دار الحكمة التي كانت مؤسسة أكاديمية تخدم كجامعة تأسست في بغداد عام 1004م. خالل هذه الفترة مر الطب اإلسالمي بتقدمات مؤثرة التي مؤخرا أثرت في التعليم الطبي والممارسة في أوربا. وبذلت جهود شديدة في ترجمة اعمال أبقراط ورفوس من إفسيس ،وديوسقراط ،وجاليين التي أخذت مكانا. وألف الدراسون العرب باإلضافة إلى التوسع في المعرفة التي جمعوها من المخطوطات القديمة باإلضافة إلى خبراتهم. فالعديد من الرواد العرب ذكروا في التاريخ الطبي من أشهرهم يوحنا بن مأسوية الذي أجري التشريح ووصف الحساسية وأبو بكر محمد ابن زكريا الرازي (الرازي) الذي ميز الجدري من الحصبة واصفا التفرع الحنجري (الحلقي) من العصب المرتد (المعاكس) فقدم مرهم زئبقي وكمادات ساخنة ورطبة في الجراحة وبحث في التفاعالت النفسية وكتب موسوعته الطبية المشهورة (الحاوي) من 30عدد. والزهاوي الذي عرف بأبو الجراحة والذي أجري عملية جراحية للقصبة الهوائية عند انسداد مجري الهواء وأيضا تفتيت حصاة المثانة وعرف استخدام القطن والخيط ووصف الحمل خارج الرحم وسرطان الثدي والناعورية المرتبطة بالعامل الوراثي المرتبط بالجنس (مرض النزعة الدموية المؤدي إلى النزف الدموي). وابن سينا الذي ميز االلتهاب السحائي من االمراض العصبية األخرى ووصف الجمرة الخبيثة ومرض السل وقدم عالج االحليل (القضيب) التقطيري وشدد على أهمية علم الصحة والتغذية والنهج الشمولي للمريض فعمله المعروف بالقانون في الطب كان المرجع المطلق لمدة 500عام. وابن ظهر الذي وصف الشغاف والتهاب المنصف (من أمراض القلب) وشلل البلعوم وأشار إلى أهمية العالج للجسم والروح.وابن النفيس الذي درس ووصف الدورة الرئوية. فالتقدم كان واضح في مجاالت الطب والتشريح والجراحة والتخدير وأمراض القلب وطب العيون وامراض العظام وعلم البكتيريا والمجاري البولية والوالدة وعلم األعصاب وعلم النفس (متضمنا العالج النفسي) والنظافة والغذاء وطب األسنان. 20 وفي هذه الحقبة من الزمن ،أنشأ العرب نظام كامل للتعليم الطبي في العالم اإلسالمي العربي يشمل مؤسسات تعليمية وعلمية ومستشفيات.فقد تضمنت العلوم العربية الطبية تدريب أولي في العلوم األساسية مثل الكيمياء وصناعة األدوية والتشريح والفسيولوجي (علم وظائف األعضاء) والذي كان يتبع بعد ذلك بتدريب طبي في المستشفيات حيث كان يؤدي الطالب الفحوصات الجسدية وحضور محاضرات طبية وحلقات في جناح في المستشفى. وعند اكتمال التدريب فالطبيب المستقبلي كان يطلب منه نجاحه في امتحان شفهي وعملي لكي يحصل على المزاولة أو الترخيص.فالطب لم يكن مهنة او علم ،بل وضع فلسفي مؤسس على الدين والثقافة وإطاعة شريعة أخالقية تميز سلوك الطبيب وواجبه تجاه المريض والزميل والمجتمع. في نفس الوقت تطورت مستشفيات عامة في جميع أنجاء العالم العربي فكانت مؤسسات منظمة تدار تحت قوانين خاصة وموجهة من خالل األطباء فلم يكن هناك تدخل ،أو تمييز جنسي ،أو ديني ،أو اجتماعي ،أو اقتصادي في عالج المرضي وكانت تحفظ السجالت الطبية.فالمستشفيات كانت بتجهيزات مالئمة وكانت تحتوي على وحدات للمرضي المقيمين في المستشفى ووحدات للمرضي الذين يترددوا على المستشفى وأنشأت وحدات عالجية صغيرة متنقلة لخدمة المناطق البعيدة وساحات المعركة.فأول مستسقي أنشأت في دمشق عام ،706ولكن اهم المستشفيات كانت تقع في بغداد وأنشأت عام .982 وعلي مدي التقدم في الطب كان هناك تقدم ملحوظ في علم األدوية ففي القرن التاسع الهجري ترجمت مخطوطات ديسكوردس وجاليين من اليونانية فشكلت القاعدة لزيادة الفهم.فالدارسين العرب أصبحوا مطلعين على األعشاب وخبراء في التخدير وطوروا أساليب في التقطير والبلورة والمحاليل وقدموا عقاقير جديدة مثل الكافور وسينا والمسك والشب والصندل والعنبر والزئبق والصير والبييش باإلضافة إلى تطوريهم الشراب والجالب المصنوع من مستخرجات بالنكهة مثل الماء المقطر والبرتقال وقشرة الليمون وتم تجربته مع السموم والمضادات الحيوية. ومن أشهر الكتب (الكتاب الشامل في المواد الطبية والمواد الغذائية) فهو مرتب أبجديا ألكثر من 1400 وصفة طبية وكتبه ابن البيطار.فأول صيدلية (متجر أدوية) تم تأسيسه في بغداد عام 745في القرن الثامن عشر.ولذلك فقد تميز علم األدوية عن الطب والكيمياء وأصبح فرع مستقل فكان تأثير علم األدوية العربي علي أوربا هائال لمدة قرون فالمصطلحات التي تستخدم يوميا في علم األدوية والكيمياء مثل العقاقير والقلوي والكحول واألكسير واأللدهيد إلى أخره مشتقة من اللغة العربية. إن التطور في العلوم الطبية لم يكن ظاهرة منفصلة فصاحبه تقدم مذهل في علم الفلك والرياضيات والكيمياء ومجاالت العلوم األخرى فعالم الفلك البارز ابن فرناس الذي أنشأ نموذج يمثل النظام الشمسي وكان أول إنسان يحاول الطيران.والزرقالي الذي صنع االسطرالب الذي يستخدم لقياس حركة النجوم والبتروجي الذي درس الحركات النجمية والفرجاني الذي كتب (عناصر في علم الفلك) والسيوفي الذي وصف مجرة أندروميدا فعلم الرياضيات كان أيضا مرتبط بعلم الفلك فمعظم علماء الرياضيات كانوا علماء فلك. أزدهر علم الحساب والجبر والهندسة وعلم المثلثات فأشهر علماء الهندسة كان الحجاج ابن يوسف الذي ترجم عناصر إيقليدس ومحمد وحسن ابن موسي اللذان كتبا كتب في قياسات األجسام الكروية وتثليث الزوايا واكتشاف طرق لرسم القطاع الناقص ومن بين كل علماء الحساب والجبر فإن الخوارزمي يعتبر أعظمهم فهو حصل على المعلومات من اليونانيين والهندوس ونقل علم الحساب والجبر والذي أثر كثيرا علي علم الحساب في العصور الوسطي.وفي النهاية علم المثلثات الذي تطور مع علم الفلك ومن أشهر علمائه أحمد 21 النهواندي والخوارزمي وحبيش الحسيب ويحيي ابن أبي منصور وسند ابن علي.وفي مجال الكيمياء قدم جابر ابن حيان المعني التجريبي مؤديا إلى تحول الكيمياء إلى الكيمياء الحديثة. وباإلضافة فإن العصر الذهبي تميز باإلنجازات التكنولوجية وفي العمارة وفي الفنون فمعظم طرق الري مثل القنوات األرضية وطواحين الهواء والساقية هي من اختراعات العرب وحتى في وقتنا الحاضر فإن معجزات العرب في فن العمارة واألشياء الفريدة في الفن موجودة في العديد من الدول ومن أفضل االمثلة على ذلك جنوب أسبانيا. ولسوء الحظ فإن التدهور هو ظاهرة تاريخية ملحوظة في كل األوقات وفي كل الثقافات وبدون استثناء حتى العالم العربي اإلسالمي.فمن القرن التاسع الهجري فإن بعض القطاعات بدأت بالسقوط من الحكم العباسي وعلي امتداد القرون األربعة المتتالية توزعت ?