Summary

This document provides a general introduction and key concepts about constitutions. It explores the role of constitutions as a framework for government, outlining their function in limiting government power through established principles and empowering it through specific actions. It also examines the relationship between constitutions and societal values, illustrating constitutional embodiments through examples.

Full Transcript

‫الدستور‬ ‫مقدمة عامة ومفاهيم رئيسية‬ ‫ما هو الدستور؟‬ ‫الدستور قانون يوضح شكل نظام الحكم‪ ،‬ويعرف سلطات ووظائف المؤسسات‬ ‫المختلفة‪ ،‬وينظم العالقة بين تلك المؤسسات واألفراد‪.‬‬ ‫يعمل الدستور كقيد على الحكومة‪...

‫الدستور‬ ‫مقدمة عامة ومفاهيم رئيسية‬ ‫ما هو الدستور؟‬ ‫الدستور قانون يوضح شكل نظام الحكم‪ ،‬ويعرف سلطات ووظائف المؤسسات‬ ‫المختلفة‪ ،‬وينظم العالقة بين تلك المؤسسات واألفراد‪.‬‬ ‫يعمل الدستور كقيد على الحكومة‪ ،‬من خالل إرساء مجموعة من المبادئ التي ال‬ ‫يجوز قانوًن ا انتهاكها أو خرقها‪ ،‬والتي يجب على المشرع( في سنه القوانين‬ ‫المختلفة) والحكومة (في أدائها وظائفها) االلتزام بها‪.‬‬ ‫من جهة أخرى تعمل الوثيقة الدستورية على تمكين الحكومة من العمل‬ ‫ومؤسساتها من َط رق مجاالت معينة‪ ،‬مثل تعزيز الرفاه المجتمعي‪.‬‬ ‫عادًة ما تكون الدساتير في صورة مكتوبة‪ ،‬وُم ضمنة في وثيقة واحدة‪،‬‬ ‫والممارسة المألوفة بين دول العالم‪ ،‬فيما خال استثناءات قليلة‪ ،‬هي وجود وثيقة‬ ‫دستورية مكتوبة واحدة تقوم بالوظائف التي سبق ذكرها‪.‬‬ ‫ُي عبر الدستور عن مجموعة من القواعد والمبادئ التي يجري على أساسها إدارة‬ ‫شئون الحكم‪ ،‬وتفسير وتبرير‪ ،‬أو نقد وإدانة سلوك السلطات العامة‪.‬‬ ‫يستمد موظفو الدولة سلطاِت هم من الدستور‪ ،‬وعلى أساس هذا الدستور يميلون‬ ‫لتبرير تصرفاتهم بالقول بانسجامها مع نص وروح الوثيقة الدستورية‪.‬‬ ‫الدستور كتعبير عن القيم الرئيسية للجماعة السياسية‬ ‫يعبر الدستور‪ ،‬كوثيقة‪ ،‬عن القيم الرئيسية للمجتمع السياسي‪ ،‬وتلك القيم‬ ‫متنوعة ومتعددة‪ ،‬فقد يعكس الدستور المعايير السياسية الجوهرية لألمة‬ ‫وهويتها‪ ،‬وتجاربه التاريخية‪ ،‬أو األعراف والمعايير الدولية‪ ،‬كالحرية‬ ‫والديمقراطية‪.‬‬ ‫مثال‪ :‬دستور جنوب أفريقيا لعام ‪ ،1996‬الذي يهدف إلى إرساء قيم المساواة‬ ‫والتعايش بين التكوينات المجتمعية المختلفة‪ ،‬من خالل نبذ ممارسات التفرقة‬ ‫العنصرية‪ ،‬والتأكيد على قيم حقوق اإلنسان‪ ،‬وعلى دور القضاء الدستوري في‬ ‫ضمان التوقير الكافي للقانون الدولي‪.‬‬ ‫مثال‪ :‬الدستور األلماني الصادر عام ‪ ،1949‬الذي تأثر واضعوه بتجربة الخضوع‬ ‫للحكم الشمولي على يد النظام النازي؛ فجاء ليعلي من "الكرامة اإلنسانية"‬ ‫كواحد من أهم مبادئه الرئيسية‪.‬‬ ‫من خالل عملية تمكين الحكومة ووضع قيود على ممارستها لسلطتها تعتمد‬ ‫الدساتير على مجموعة من المُث ل العليا والمبادئ والقيم التي ُي قصد من تضمينها‬ ‫توجيه إدارة شئون الدولة‪.‬‬ ‫تمثل مكونات كسيادة الشعب‪ ،‬والحكومة التمثيلية‪ ،‬والحقوق السياسية‬ ‫واالقتصادية واالجتماعية‪ ،‬نصوًص ا على قيم ُي فترض أن تحكم المجتمع‬ ‫السياسي‪.‬‬ ‫عادًة ما ينص الدستور على مجموعة من االلتزامات السياسية الجوهرية أو‬ ‫الرئيسية للمجتمع السياسي‪ ،‬مثل نوع الحكومة التي تمثله‪ ،‬وحقوق المواطنين‬ ‫واألفراد‪ ،‬وواجبات الدولة‪.‬‬ ‫تنص العديد من الدساتير صراحًة على أهداف وطموحات المجتمع السياسي‪،‬‬ ‫وتعتبر ديباجة الدستور أداة مفيدة لتحقيق هذا الهدف‪.‬‬ ‫تبدو أهمية تضمين القيم التأسيسية والرئيسية في الدستور أوضح ما يكون في‬ ‫المجتمعات الديمقراطية والليبرالية؛ حيث يكون قصد واضعي الدستور من‬ ‫تضمين تلك القيم‪ ،‬سواء صراحًة في الديباجة‪ ،‬أو بصورة ضمنية من خالل‬ ‫أحكامه المختلفة‪ ،‬أن تقود تلك القيم العملية السياسية وأن ترشد عمل مؤسسات‬ ‫الحكم المختلفة‪.‬‬ ‫يتوقف مدى تأثير القيم الُم ضمنة في الدستور‪ ،‬والتي غالًب ا ما تتسم بالتجريد‬ ‫والعمومية‪ ،‬في الواقع العملي‪ ،‬على السياق االجتماعي الذي يوجد به الدستور‪،‬‬ ‫وهو أمر يختلف – من ثَّم – بين دولة وأخرى ويجب إخضاعه للبحث التجريبي‪.‬‬ ‫عملية تضمين القيم والُم ثل العليا وطموحات المجتمع السياسي في ديباجة‬ ‫الدستور أمر يسير نسبيا وغير مكلف‪ ،‬لكن جعل هذه القيم أساًس ا للحركة‬ ‫السياسية ومبرًر ا للتقاضي يتطلب التزام عملي من األجهزة الحكومية‪.‬‬ ‫مثال‪ :‬حظر الدستور اإليرلندي لإلجهاض‪ ،‬وحظر الدستور األوغندي لحقوق‬ ‫الشواذ في سياق القيم الدينية التي يدافع عنها كال الدستورين‪.‬‬ ‫مثال‪ :‬الدستور البرتغالي الصادر عام ‪ ،1976‬والذي تنص ديباجته على مجموعة‬ ‫من الحقوق االجتماعية للمواطنين‪ ،‬والتي تقف على النقيض من فكرة دولة الحد‬ ‫األدنى والليبرالية االقتصادية‪.‬‬ ‫وعلى نحٍو مشابه تتضمن الدساتير الصادرة مؤخًر ا لدول فنزويال وبوليفيا‬ ‫واإلكوادور‪ ،‬في ديباجتها‪ ،‬مجموعة من الحقوق االقتصادية واالجتماعية التي‬ ‫تعكس الرغبة في القضاء على صور التفاوت االجتماعي الصارخ التي عانت منها‬ ‫مجتمعات تلك الدول في الماضي‪.‬‬ ‫وتنص تلك الدساتير الثالثة على ضرورة اتباع سياسات اقتصادية واجتماعية‬ ‫مصممة لمعالجة المظالم الشعبية الناتجة عن تنبي سياسات التنمية النيو‪-‬‬ ‫ليبرالية والتكيف الهيكلي والخصخصة‪.‬‬ ‫وعلى سبيل المثال يمنح الدستور الفنزويلي "كافة المواطنين حق العمل"‬ ‫ويعتبره واجًب ا أيًض ا‪ ،‬ويعدهم "بالحصول على حياة كريمة وشريفة"‪ ،‬أما دستور‬ ‫بوليفيا فيمنح "كل فرد الحق في الغذاء"‪.‬‬ ‫في بعض النظم السياسية التي نعمت باستقرار نسبي في تطورها تعكس القيم‬ ‫الدستورية اإلرث التاريخي والشخصية القومية‪ ،‬مثل بريطانيا‪ ،‬بينما قد يكون‬ ‫الهدف الرئيسي من وضع الدساتير‪ ،‬في سياق نظم سياسية أخرى‪ ،‬هو نبذ تأثير‬ ‫القيم القديمة‪ ،‬لصالح قيم أخرى جديدة‪ ،‬السيما إذا ارتبطت عملية وضع الدستور‬ ‫بتحوالت سياسية كبرى كثورة مثًال‪.‬‬ ‫ال تعكس الدساتير القيم والطموحات الوطنية فقط‪ ،‬لكنها قد تجسد أيًض ا‬ ‫المعايير واألعراف الدولية‪ ،‬التي طورتها الشعوب األخرى وتعهدتها بالرعاية‪.‬‬ ‫يتم ذلك من خالل بعض اآلليات‪ ،‬لعل من أبرزها‪:‬‬ ‫اإلكراه والقسر‪ :‬حيث قد تدفع القوى الكبرى بعض الدول الخاضعة لنفوذها إلى‬ ‫تبني ترتيبات دستورية معينة‪ ،‬والصورة األكثر فجاجة على ذلك هي وضع‬ ‫االحتالل العسكري‪.‬‬ ‫مثال‪ :‬الدستور الياباني الصادر عام ‪ 1946‬الذي صيغ بواسطة مسئولين‬ ‫أمريكيين‪ ،‬وعكَس تصورات هؤالء المسئولين عن ماهية الدستور المالئم‪.‬‬ ‫التعُّلم‪ :‬حيث تستعير أو تقتبس بعض الدول أحكاًم ا دستورية من دول أخرى بعد‬ ‫تقويم النماذج الدستورية األجنبية‪ ،‬واتخاذها مصدًر ا للمقارنة واإللهام‪ ،‬وهو أمر‬ ‫مألوف نسبًي ا لدى الدول التي تشترك في سمات اجتماعية وتاريخية محددة‪.‬‬ ‫المحاكاة‪ :‬حيث تميل بعض الدول إلى استنساخ القواعد الدستورية لدول‬ ‫األخرى‪ ،‬ليس القتناعها بالقيمة المتأصلة لتلك القواعد‪ ،‬بل سعًي ا الكتساب القبول‬ ‫والشرعية الدولية‪.‬‬ ‫يظهر ذلك حين يتبني عدد كبير من الدول المهمة في النظام الدولي بعض‬ ‫األحكام الدستورية‪ ،‬وتصبح تلك األحكام أعراًف ا "للجماعة الدولية"‪ ،‬ويغدو‬ ‫التوافق مع تلك األعراف مصدًر ا للشرعية والتقدير الدوليين‪.‬‬ ‫عند صياغة معظم الدساتير نجد أن األعراف المحلية والوطنية توجد جنًب ا إلى‬ ‫جنب مع التأثيرات العالمية أو الدولية‪ ،‬ومن ثم تكون معظم الدساتير مزيًج ا من‬ ‫المحلية والخصوصية من جانب‪ ،‬والتماثل والتشابه من جانب آخر‪.‬‬ ‫تعمد معظم الدساتير‪ ،‬في النظم الديمقراطية على األقل‪ ،‬إلى توصيف الشعب‬ ‫باعتباره مصدر السيادة‪ ،‬وأنه يقوم بتسليم السلطة إلى ممثليه من نواب الشعب‪،‬‬ ‫وتتأسس الحكومة التمثيلية على آلية االنتخابات الدورية‪.‬‬ ‫يبدو ذلك وكأنه حل عالمي لمعضلة عالمية ترتبط بكيف يمكن للشعب أن يحكم‬ ‫نفسه وأن يكون له نظام سياسي فَّع ال‪.‬‬ ‫يمكن اعتبار ذلك الحل مثاًال على االنتشار الناجح للقيم الديمقراطية‪ ،‬حيث قام‬ ‫عدد محدود من المجتمعات السياسية‪ ،‬على مدار فترة زمنية طويلة‪ ،‬بابتكار‬ ‫وتطوير أسلوب محدد الستيعاب مشكلة تقع في قلب المجتمع السياسي‪.‬‬ ‫تلك المشكلة هي كيفية إدارة شئون الحكم في الدولة‪ ،‬والتي كانت الدول األخرى‬ ‫مستعدة لتبنيها بعدئٍذ دون أية تساؤالت‪.‬‬ ‫كما يمكن تأويل هذا األمر باعتباره حًال عاًم ا َت بلور عبر التجارب المشتركة‬ ‫للمجتمعات البشرية والتي تتصل بمعضلة مركزية لكافة نظم الحكم السياسية‪.‬‬ ‫ُت عبر معظم دساتير عالم اليوم عن الديمقراطية كمَث ل أعلى للجماعة السياسية‪،‬‬ ‫هو أمر يعني في جوهره سيادة الشعب‪ ،‬وأنه مصدر السلطات‪ ،‬وعادًة ما يظهر‬ ‫هذا االلتزام بالديمقراطية في ديباجة الدستور‪.‬‬ ‫تبدأ العديد من الدساتير بكلمة "نحن الشعب" بما يوحي بوضوح أن الدستور‪،‬‬ ‫بوصفه وثيقة تحكم التفاعالت السياسية‪ ،‬يصنعه الشعب صاحب السيادة‬ ‫وينتسب إليه‪.‬‬ ‫بغض النظر عن اشتراط السيادة الشعبية‪ ،‬تجعل الممارسة في الديمقراطيات‬ ‫المعاصرة الشعب يقوم بتسليم شئون الحكم إلى ممثليه الذين اختارهم عبر‬ ‫انتخابات حرة ونزيهة‪.‬‬ ‫الدستور كنتاج للصراع على السلطة والنفوذ في المجتمع‬ ‫إن الدستور هو "السياسة بوسائل أخرى" (‪constitutions are politics‬‬ ‫‪ ،)with other means‬وهو نتاج للصراعات الداخلية بين النخب المحلية‬ ‫على السلطة والنفوذ‪.‬‬ ‫ربما تعكس الدساتير مصالح النخب السياسية وأجندة جماعات المصالح‬ ‫المختلفة‪ ،‬والمساومات التي تجري بينها‪.‬‬ ‫أحد األهداف الرئيسية ألي دستور هو إنشاء السلطة السياسية‪ ،‬ووضع قيود‬ ‫على ممارسيها‪ ،‬وتوفر الدساتير برنامج عمل نموذجي إلدامة تفضيالت محددة‬ ‫بخصوص القيم والسياسات العامة والمؤسسات بينما تستبعد رؤى وسياسات‬ ‫ومؤسسات أخرى‪.‬‬ ‫بينما يؤكد االقتراب المثالي على أن الدستور إعالن عن قيم الجماعة السياسية‪،‬‬ ‫سواء كانت تلك القيم أصيلة في المجتمع السياسي‪ ،‬أو جرى استيرادها من‬ ‫مصادر تقع خارجه‪ ،‬يضيف االقتراب الواقعي ُبعًد ا ثالثا لتفسير مضمون الدستور‪.‬‬ ‫هذا البعد هو المصالح الذاتية للنخب السياسية‪ ،‬وهكذا تنبع القيم والمؤسسات‬ ‫الُم ضمنة في الوثيقة الدستورية من قدرة النخب السياسية على التأثير في‬ ‫مضمونها‪.‬‬ ‫يبدو االقترابان السابقان‪ -‬الواقعي والمثالي‪ -‬وكأنهما مكمالن‪ ،‬حيث يهتم‬ ‫االقتراب الواقعي بإلقاء الضوء على التفاعالت السياسية الداخلية التي قادت‬ ‫لوضع الدستور في المقام األول‪ ،‬فضًال عن كيفية تأثير مصالح النخب وقيم‬ ‫المجتمع الداخلية والمعايير الخارجية على مضمون الدستور‪.‬‬ ‫بقدر ما تؤثر التفاعالت السياسية وحسابات المصالح على الخيارات الدستورية‪،‬‬ ‫فإن ذلك التأثير يرجح بشكل أكبر أن يظهر في جسد الوثيقة الدستورية وليس‬ ‫في الديباجة أو وثيقة الحقوق‪.‬‬ ‫إن النصوص التي لها عالقة مباشرة بالدور المستقبلي للنخب السياسية المختلفة‬ ‫في تسيير شئون الحكم‪ ،‬كتلك الخاصة بالعالقة بين رئيس الدولة ورئيس‬ ‫الوزراء‪ ،‬والرقابة القضائية‪ ،‬قد تكون موضع لصراع بين تلك النخب‪.‬‬ ‫يالحظ أن هناك نقص في البحوث التي توظف هذا المنظور بما يعيق تحديد‬ ‫العالقات السببية بين حسابات القوة والنفوذ من جهة ومضمون الدستور من جهة‬ ‫أخرى‪.‬‬ ‫الدستور كتعبير عن العقد االجتماعي‬ ‫الدستور تجسيد للعقد االجتماعي بين األفراد ومع السلطة السياسية‪ ،‬وعلى‬ ‫أساسه تقوم الدولة‪ ،‬وفيه تتقرر الحقوق والواجبات العامة لألفراد بينهم البعض‪،‬‬ ‫وفي مواجهة الدولة‪.‬‬ ‫إن الدستور أبو القوانين‪ ،‬وهو يسمو على ما عداه من قواعد تشريعية‪ ،‬بحيث أن‬ ‫التشريع الذي يصدر بالمخالفة لنصوصه يواجه خطر القابلية لإللغاء بدعوى عدم‬ ‫الدستورية‪.‬‬ ‫الدستور وُح كم القانون‬ ‫يمكن التأريخ لنشأة الدساتير الحديثة مع اندالع الثورتين األمريكية والفرنسية‬ ‫في نهاية القرن الثامن عشر‪.‬‬ ‫حيث اختلفت هاتان الثورتان عن أعمال التمرد واالضطرابات السابقة في إصرار‬ ‫القوى الثورية في هذين البلدين على إرساء معالم نظام سياسي جديد يختلف‬ ‫اختالًف ا جذرًي ا عن النظام الذي جرت الثورة عليه‪.‬‬ ‫ولتحقيق ذلك ابتكرت تلك القوى مجموعة من القواعد الدستورية ذات قوة‬ ‫ملزمة وترسي إطاًر ا قانونيا يجب ممارسة الحكم وفًق ا له‪.‬‬ ‫ولكي يتوفر هذا اإلطار القانوني الملزم وجب تمييز الدستور عن القانون العادي‪.‬‬ ‫إن الدستور قانون تظهر بموجبه السلطة العامة الشرعية إلى حيز الوجود‪ ،‬وتتقيد‬ ‫به‪.‬‬ ‫ولهذا السبب ال يمكن للدستور‪ ،‬بحسب النظرية الديمقراطية‪ ،‬أن ينبع من الحاكم‬ ‫نفسه‪ ،‬وفي كلتا الدولتين كان هذا المصدر المختلف للوثيقة الدستورية هو‬ ‫الشعب‪.‬‬ ‫ويكمن وراء الدستور الحديث مبدأ السيادة الشعبية عوضا عن سيادة‬ ‫الَم لك‪ ،‬ولقد تمثلت أهم معالم النظام الدستوري الجديد في كلتا‬ ‫الدولتين في تبني فكرة الحكومة المقيدة‪ ،‬ويستلزم ذلك إعطاء األولوية‬ ‫للحريات والحقوق الفردية من جهة‪ ،‬واإليمان بأن أفضل ضمانة لتلك‬ ‫الحقوق والحريات هي عدم تركيز سلطة الحكم في جهة واحدة بل‬ ‫توزيعها بين أفرع الحكومة المختلفة من جهة أخرى‪.‬‬ ‫والدستور بمعناه الحديث مجموعة من القواعد القانونية التي تهدف إلى تنظيم‬ ‫نشأة السلطة العامة وممارستها لوظائفها‪.‬‬ ‫وهو يسمو بالضرورة على ما عداه من القواعد القانونية‪ ،‬ولهذا السبب ال يمكن‬ ‫نعت التشريعات المتعارضة مع الدستور بالصحة القانونية‪ ،‬ويجد الدستور أصله‬ ‫في الشعب باعتباره مصدر الشرعية‪.‬‬ ‫والدستور‪ ،‬وفق التصور الديمقراطي‪ ،‬يستبعد ممارسة أي سلطة مطلقة أو‬ ‫تعسفية‪ ،‬ومن خالل إخضاع كافة صنوف السلوك الحكومي للدستور يتحقق‬ ‫الُح كم الدستوري‪.‬‬ ‫وللحكم الدستوري مزيات عديدة‪ ،‬فمن ناحية أولى يجعل سلوك الحكومة‬ ‫متوقًع ا ألنه يتم وفق قواعد مرعية‪.‬‬ ‫ومن ناحية ثانية يَم كن المحكومين من التعامل مع ممثلي السلطة العامة دون‬ ‫خوف أو رهبة‪.‬‬ ‫ومن ناحية ثالثة يوفر األساس للتوافق حول مجموعة من القواعد لحل‬ ‫الخالفات السياسية بين الجماعات واألفراد ذات اآلراء المتباينة‪ ،‬ويقود ذلك إلى‬ ‫سلمية الخالفات السياسية والسماح بانتقال سلس للسلطة‪ ،‬وفي الوقت نفسه‬ ‫يعتبر تحقق الحكم الدستوري رهًنا بمجموعة من الشروط واالعتبارات‪.‬‬ ‫الطبيعة القانونية للدستور‬ ‫يصدر الدستور في شكل قانون‪ ،‬وال يضمن ذلك بالضرورة أنه فَّع ال ويحكم‬ ‫التفاعالت على أرض الواقع‪.‬فالدستور يكتسب أهميته من احترام السلطات‬ ‫العامة له‪ ،‬والشاهد أن بعض الدساتير ربما تكون حبر على ورق‪ ،‬وال يكون لها تأثير‬ ‫في العالم الحقيقي‪ ،‬وبتعبير آخر قد تتسع الفجوة بين النص الدستوري والواقع‬ ‫السياسي‪.‬‬ ‫وربما قصد واضعو الدستور من كتابته منذ البداية أن يكون مجرد واجهة إلضفاء‬ ‫الشرعية وال شيء أكثر من ذلك‪ ،‬وربما عمدت السلطات العامة إلى إلغاء الدستور‬ ‫نفسه بعد فترة قصيرة من إصداره‪ ،‬وربما جرى تجاهل قواعده بصفة منتظمة‬ ‫حين تتصادم أحكامه مع األهداف السياسية‪.‬‬ ‫وهكذا يرى ‪ " ”Karl Loewenstein‬أن المعيار األهم لتصنيف الدساتير هو‬ ‫األثر القانوني للوثيقة الدستورية‪ ،‬أي درجة تماشي أو اتساق الحقائق السياسية‬ ‫مع القواعد الدستورية‪.‬‬ ‫وهو يفرق بين الدساتير المعيارية ‪ " ”normative constitutions‬وهي‬ ‫الدساتير الفعالة التي تمثل إطاًر ا حاكًم ا للعملية السياسية‪ ،‬والتي عادًة ما يمتثل‬ ‫لها الفاعلون السياسيون‪.‬‬ ‫ويعتمد الدستور‪ ،‬في التصور السابق‪ ،‬على بيئة اجتماعية وسياسية ُت وقر الحكم‬ ‫الدستوري من قبل كٍل من الحاكم والمحكوم على السواء‪.‬‬ ‫ومن ناحية أخرى هناك الدساتير االسمية أو الصورية ‪nominal‬‬ ‫‪ "”constitution‬حيث َت حول بنية القوة السياسية دون تطبيق الدستور‬ ‫تطبيقا أميًنا‪ ،‬وتصبح نصوص الدستور غير فعالة حين يثور التعارض بينها وبين‬ ‫بنية القوة السياسية‪.‬‬ ‫وباإلضافة إلى ما سبق قد يكون الدستور نفسه مجرد وصف لنظام الحكم السائد‬ ‫دون أن يسعى لتوصيف مجموعة من االلتزامات المعيارية التي تقيد شاغلي‬ ‫السلطة السياسية‪ ،‬ويعني ذلك أن الدستور قد يصدر في شكل قانون لكن دون‬ ‫وجود نية لتقييد السلوك السياسي‪ ،‬وفي تلك الحال تمسي الوثيقة الدستورية‬ ‫أداة يقتصر توظيفها على خدمة مصالح شاغلي المنصب العام‪.‬‬ ‫هدف الدستور تنظيم السلطة العامة‬ ‫تهتم الدساتير ببيان الهيكل التنظيمي للدولة‪ ،‬وتعيين اختصاصات السلطات‬ ‫الثالثة‪ ،‬وتنظيم العالقة بينها‪ ،‬وتوصيف اإلجراءات التي ينبغي عليها اتباعها في‬ ‫أدائها لمهامها‪ ،‬وال يوجد دستور ال يقوم بهذه الوظيفة‪.‬‬ ‫وفي المقابل تعتبر الحكومة المطلقة نقيض الُح كم الدستوري‪ ،‬وهناك دساتير‬ ‫تقصر نفسها على القيود الرسمية واإلجرائية وأخرى تحوي‪-‬فضًال عن ذلك‪ -‬قيوًد ا‬ ‫موضوعية‪.‬‬ ‫وعلى سبيل المثال آمن اآلباء المؤسسون للواليات المتحدة األمريكية في‬ ‫البداية بكفاية القواعد اإلجرائية كضمانة لتقييد الحكومة وحماية المواطنين‪.‬‬ ‫أما القوى الثورية في فرنسا فقد وجدت أن القيود الموضوعية مهمة للغاية‬ ‫لدرجة إصدارها إعالن حقوق اإلنسان والمواطن حتى قبل صياغة الدستور‪ ،‬كما‬ ‫أضيف إعالن الحقوق “ ‪ ”Bill of Rights‬إلى الدستور األمريكي بعد أربع‬ ‫سنوات فقط من إصداره‪.‬‬ ‫سمو الدستور‬ ‫يمكن للدستور أن يفي بوظائفه فقط إذا تمتع بالسمو‪ ،‬بمعنى وجوب‬ ‫انسجام كل أفعال السلطة العامة مع أحكام الدستور‪ ،‬وُتعني هذه السمة‬ ‫ليس باكتساب القانون الدستوري صفة القانون بل باكتسابه صفة‬ ‫القانون األرفع منزلًة وشأًنا داخل النظام القانوني لبلد من البلدان‪.‬‬ ‫وبرغم تلك الحقيقة فإن الدستور أشد عرضة لالنتهاك والخرق من القانون‬ ‫العادي؛ وبينما يصدر القانون العادي من الحكومة وُي لزم الشعب‪ ،‬فإن الدستور‬ ‫ُي نسب إلى الشعب ويلزم الحكومة‪ ،‬فإذا قام أحد األفراد بانتهاك للقانون العادي‬ ‫فإن على الحكومة واجب إنفاذ القانون وهي تملك القوة القهرية لفعل ذلك‪.‬‬ ‫لكن عند تطبيق الدستور تثور معضلة ال يمكن التقليل من خطورتها وهي أن‬ ‫المخاَط ب بالقاعدة القانونية ومن يسهر على تطبيقها جهة واحدة هي الحكومة؛‬ ‫وهذا ما يفسر التأثير المحدود للقانون الدستوري في الماضي وفي الوقت‬ ‫الحاضر بالعديد من الدول‪.‬‬ ‫لقد كانت الواليات المتحدة األمريكية سباقة في تطبيق مبدأ سمو الدستور‪ ،‬لكن‬ ‫الدستور األمريكي لم ينص صراحًة على مسألة تمتع السلطة القضائية بحق‬ ‫إعالن القوانين العادية غير دستورية ومن ثم الحكم ببطالنها أو إلغائها‪.‬‬ ‫وقد احتاج إرساء مبدأ الرقابة القضائية الالحقة على دستورية القوانين صدور‬ ‫حكم المحكمة العليا التاريخي عام ‪ 1803‬في قضية ‪Marbury v‬‬ ‫‪ ،" "Madison‬ولقد أضحى هذا المبدأ سمة مميزة للُح كم الدستوري في‬ ‫الواليات المتحدة األمريكية‪ُ ،‬ر غم أن التطبيق األهم للحقوق األساسية بدأ في‬ ‫القرن العشرين‪.‬‬ ‫من جهة ثانية أسس دستور النمسا الصادر عام ‪ 1920‬أول محكمة دستورية‬ ‫متخصصة تملك وحدها سلطة مراجعة دستورية القوانين‪ ،‬وقد تبنت تشيكوسلوفاكيا‬ ‫نفس النظام‪ ،‬وبعد الحرب العالمية الثانية وإصدار دساتير جديدة في ألمانيا وإيطاليا‬ ‫جرى تبني نفس النظام‪ ،‬وفي هذا السياق لعبت فكرة وجود حارس مستقل على صون‬ ‫أحكام الدستور دوًر ا مهًم ا‪.‬‬ ‫وفي الوقت الحالي ُت عرف المراجعة القضائية على دستورية القوانين من قبل محكمة‬ ‫دستورية متخصصة ب"النموذج األلماني"؛ ربما بسبب اتساع سلطات المحكمة‬ ‫الدستورية في ألمانيا عن نظيرتها في النمسا أو إيطاليا‪.‬‬ ‫فضًال عن المكانة التي تتمتع هذه المؤسسة لدى المجتمع والتي تضمن لها درجة عالية‬ ‫وغير مألوفة من االمتثال ألحكامها من جانب األفرع السياسية للحكومة‪.‬ومع حلول‬ ‫الربع األخير من القرن العشرين باتت الرقابة القضائية هي القاعدة وليس االستثناء في‬ ‫الغالبية العظمى من دول العالم‪.‬‬ ‫وُي علمنا التاريخ والخبرة المعاصرة أن الدول التي تفتقر لتقليد متأصل لحكم‬ ‫القانون يصبح فيها الحكم الدستوري في خطر إذا غابت آلية خاصة لتطبيق‬ ‫الدستور‪.‬‬ ‫وال يعني ذلك بالضرورة أن كل المحاكم الدستورية مؤثرة مثل الحال في ألمانيا‪،‬‬ ‫فكما أن هناك دساتير ضعيفة المفعول‪ ،‬توجد أيًض ا محاكم دستورية ضعيفة‪،‬‬ ‫والخبرة السياسية حافلة بحاالت لقيام السلطة التنفيذية بترويض القضاء‬ ‫الدستوري في بعض الدول‪.‬‬ ‫صنع الدستور‬ ‫صناعة الدستور فعل سياسي بامتياز‪ ،‬حيث تتم عملية الصناعة من جانب الفاعلين‬ ‫السياسيين‪ ،‬المسئولين عن تقييم وانتقاء وتفعيل الخيارات المجتمعية‪ ،‬وتتشكل عملية‬ ‫صناعة الدستور بالنظام السياسي الذي تتم في إطاره‪ ،‬كما أنها تؤثر على ذلك النظام‪.‬‬ ‫وُر غم أن الدساتير تصمم لمقاومة التغير والزمن فإن دوًال قليلة فقط‪ ،‬على رأسها‬ ‫الواليات المتحدة األمريكية‪ ،‬استطاعت االستمرار بنفس الوثيقة الدستورية الرئيسية‬ ‫لما يزيد على مائتي عام (على خالف فرنسا التي شهدت أكثر من عشرة دساتير في‬ ‫مائتي عام‪ ،‬والعدد الدقيق محل خالف بين المؤرخين؛ ألن بعض الدساتير لم تعتبر‬ ‫شرعية من ِق بل بعضهم)‪.‬‬ ‫وبينما قد تظل الدساتير من الناحية الرسمية كما هي‪ ،‬فإنه من الممكن أن يصبح‬ ‫الدستور من خالل التعديالت مختلًف ا بالكلية عن الوثيقة األصلية؛ بما يفتح المجال‬ ‫للحديث عن تغيير جوهري في الدستور دون صناعة دستور جديد‪.‬‬ ‫كصدًى النتشار األيديولوجية الديمقراطية تربط النظريات الديمقراطية‬ ‫الحديثة سلطة صناعة الدستور بالمصدر النهائي للسلطة في الدولة وهو الشعب‪،‬‬ ‫وهناك اعتقاد سائد مؤداه أنه كلما زادت مشاركة الشعب في صناعة الدستور كلما‬ ‫زاد ذلك من شرعيته وقبوله لدى المواطنين‪.‬‬ ‫وتبدو عملية صناعة الدساتير وكأنها تتبع مجموعة من القواعد المحددة التي‬ ‫تطورت بالتدريج‪ ،‬فكيف ُت صنع الدساتير؟ وهل يمكن الحديث عن نماذج متمايزة‬ ‫لصناعتها؟ وما هي أسس المفاضلة بين نموذج وآخر؟ وماهي العوامل التي‬ ‫تجعل علمية صناعة الدستور تتسم بالشرعية؟‬ ‫وكيف يمكن تحقيق استقرار الوثيقة الدستورية بمعنى استمرار القيم‬ ‫والمؤسسات التي تعبر عنها ألجيال قادمة وحمايته من التغييرات الجوهرية التي‬ ‫تتعارض مع مقاصده الرئيسية؟ وكيف يمكن في الوقت نفسه تحقيق المرونة‬ ‫الكافية من خالل السماح بالتواؤم المعقول مع المستجدات؟‬

Use Quizgecko on...
Browser
Browser