تاريخ مصر في العصرين البطلمي والروماني PDF
Document Details
Uploaded by TimelyIvy
كلية البنات جامعة عين شمس
د/ سامي عبد الفتاح
Tags
Summary
يقدم هذا الكتاب دراسة شاملة لتاريخ مصر خلال العصرين اليوناني والروماني، مع التركيز على العلاقة بين الحضارة المصرية والحضارة اليونانية والرومانية، ويشمل جوانب سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وفنية.
Full Transcript
ر محاضات ر يف تاريخ مصر في عصري البطالمة والرومان د /سامي عبد الفتاح 1 مقدمة تهدف الدراسة التي تضم صفحات هذا الكتاب إلى محاولة تتبع تاريخ مصر وحضارتها خالل العصرين اليوناني...
ر محاضات ر يف تاريخ مصر في عصري البطالمة والرومان د /سامي عبد الفتاح 1 مقدمة تهدف الدراسة التي تضم صفحات هذا الكتاب إلى محاولة تتبع تاريخ مصر وحضارتها خالل العصرين اليوناني والروماني؛ فالعصر اليوناني شهد قيام دولة البطالمة في مصر ،والتقت خالله الحضارة المصرية بالحضارة اليونانية الوافدة ،ونحاول هنا توضيح المالمح الرئيسية لهذا العصر الذي افتتحه اإلسكندر األكبر ألنه يشكل بالضرورة الخلفية التاريخية التي ال يمكن فهم حضارة مصر في عصر البطالمة دون اإللمام بأبعادها. وفي العصر الروماني أصبحت مصر والية لها أهميتها الكبرى في اإلمبراطورية الرومانية مما جعل لهذه الدراسة قيمتها الخاصي بالنسبة لنا ،إذا كان لنا أن نستكمل تفهمنا لهويتنا أو شخصيتنا الحضارية في مصر وذلك بسبب التداخل الكبير بين حضارتنا اليونانية والرومانية ،وهو تداخل استغرق فترة طويلة من الزمن امتدت حوالي ألف عام- منذ فتح اإلسكندر األكبر لمصر عام ( 332ق.م ).حتى الفتح العربي ( 641م.). -لذا فهي فرصة للتعرف على تاريخ وأحوال مصر في عصور حاسمة من تاريخها. وكان المنهج الذي اتبعته في هذه الدراسة هو منهج التأريخ الحضاري الذي ال يقتصر على الجانب السياسي فحسب وإنما ينظر الدارس من خالله إلى المجتمع نظرة شمولية تضم الجوانب االقتصادية واالجتماعية والثقافية والفنية بحيث تصبح فيها المحصلة النهائية لتفاعل هذه الجوانب هي التاريخ الحقيقي للمجتمع. 11 ولقد قسمت هذه الدراسة إلى قسمين :القسم األول يتناول الجوانب السياسية والعسكرية واالجتماعية في مصر خالل العصر البطلمي؛ أما القسم الثاني فقد تم تخصيصه لتتبع مسارات ومستجدات هذه الجوانب في العصر الروماني. 12 تمهيد ر األكب اليونانيون يف مرص قبل فتح اإلسكندر ر لم يأت اليونانيون إلى مصر مع اإلسكندر للمرة األولى ،بل أن العالقات بين األمتين ترجع إلى أقدم الحقب التاريخية ،فقد كشفت الحفائر التي تمت حتى اآلن في جزيرة "كريت" عن آثار مصرية تثبت وجود عالقات بين مصر وهذه الجزيرة منذ عصر ما قبل األسرات ،وأن التقارب بينهما بلغ ذروته في عصر الدولة الحديثة. وفدا من (الكفتيو) -الذي يعتقد وتؤيد هذه اآلثار نقوش مصر القديمة التي تمثل ً أنهم أهل "كريت" -يقدمون لـ "تحوتمس" الثالث أواني فضية وسبائك من البرونز ،لعلها هدايا للملك المصري من أجل تحسين العالقات وللسماح لهم بالتبادل التجاري مع مصر. ولم يقتصر األمر على "كريت" ،بل أن اآلثار المصرية التي عثر عليها بكميات وفيرة في مناطق مختلفة من شبه الجزيرة اليونانية ذاتها تثبت أن تجارة مصر قد وصلت إلى األسواق اليونانية الهامة في ذلك الوقت مثل "إسبرطة" و"ميكيني" و"أرجوس".ولكن هذه الصالت األولى تنتهي عند نهاية األلف الثاني قبل الميالد بعد سقوط الدولة المينوية في "كريت" والدولة الميكينية في شبه الجزيرة. مرت بالد اليونان في القرون الثالثة التالية بفترة من الفوضى واالضطراب بسبب الغزو الدوري ( )Dorian invasionوآثاره ،وفي نفس الوقت حدثت في مصر تطورات سياسية عنيفة قضت على الدولة الحديثة وعرضت البالد للحكم األجنبي الليبي والفارسي. 13 ومع ذلك فيبدو أن المستوى الصناعي الراقي الذي بلغته مصر خالل عصر الدولة الحيثة قد بقى كما هو. ومنذ القرن الثامن قبل الميالد أخذ اليونانيون ينتشرون بكثرة في مصر.فكان بعضهم يقيم فيها مدة مؤقتة ألجل التجارة ،بينما كان غيرهم بنخرطون في الجيش المصري كجنود مرتزقة ويشتركون في محاربة السوريين والحيثيين واألشوريين.وكان ال يسمح لهؤالء الجنود أن يستقروا مع أسرتهم إال في بعض المناطق على الحدود ،ألن المصريين كانوا يأنفون من االختالط باألجانب. كبير من هؤالء الجنود عددا ًا وقد استخدم "بسماتيك" األول ( 611 -665ق.مً ). المأجورين واضطر في بادئ األمر إلى اسكانهم في مستعمرات خاصة عند "دفنة" ،حيث كانوا يعيشون معزولين عن السكان.على أن الخدمات الكبيرة التي قام بها هؤالء الجنود الشجعان في توطيد عرش "بسماتيك" دفعته إلى ادخالهم في حرسه الخاص ،كما جعلته يسعى إلى التقريب بينهم وبين المصريين.ولهذه الغاية جاء بعدد من األطفال المصريين واسكنهم مع الجنود اليونانيون ليستطيعوا تعلم اللغة اليونانية ويصبحوا تراجمة.كذلك أخذ يشجع التجار اليونانيون على المجىء إلى مصر ألن المكوس التي كان يستوفيها الجباة عن البضائع كانت تدر أمو ًاال طائلة على الخزينة.ولما ارتقى "آماسيس" العرش في سنة ( 570ق.م ).اتخذ بعض التدابير التي كان يبدو ألول وهلة أنها ضد اليونانيون ولكنها أدت في النتيجة إلى تثبيت أقدامهم في مصر.فقد ألغى "آماسيس" معسكرات "دفنة" وأمر بتهديم مصنع السفن اليوناني الذي انشىء في عهد "نخاو" ومنع دخول السفن اليونانية 14 إلى النيل ولم يسمح لليونانيين بالتجارة إال في مكان معين عند مصب النيل الغربيي حيث مركز للتبادل فأخذ اليونانيون يجتمعون في ًا كان التجار من مدينة "ميليتوس" قد اسسوا هذه البقعة التي انقلبت في مدة قصيرة إلى مدينة كبيرة سميت "نوقراتيس" أي "ملكة ألفا.وقد جعل البحر".وقد بنيت فيها عدة معابد يونانية ضخمة وبلغ عدد سكانها خمسين ً "آماسيس" حرسه الخاص كله من اليونانيين الذين سكنوا في "ممفيس" وأصبح لهم حي خاص في العاصمة وتزوج أميرة يونانية وصار يرسل الهدايا إلى المعابد اليونانية ومنح مدينة "نوقراتيس" حقوًقا واسعة في الحكم الذاتي. ولما تولى "باسمتيك" الثاني العرش استصحب معه فرقة من اليونانيين في الحملة التي شنها على الحبشة.وقد نقش كثيرون من هؤالء الجنود أسماءهم على المعابد في "أبي سمبل" بمصر العليا أثناء مرورهم بها. كانت "نوقراتيس" مدينة تجارية وصناعية في الوقت نفسه.وقد اسست فيها مصانع كثيرة لألواني الخزفية والفسيفساء.وكانت تستورد إلى مصر مختلف البضائع اليونانية وتصدر إلى اليونان المنتوجات المصرية من حبوب وورق البردي ومعادن ثمينة وعاج وريش نعام.واشتهرت المدينة بمالهيها ونسائها الجميالت وباعة اآلزهار فيها.وال كثير على اقتباس اليونانيين للحضارة المصرية. شك في أن وجود هذه المدينة قد ساعد ًا وقد كشفت الحفريات األثرية عن آثار "نوقراتيس" التي كانت قد قامت على انقاض مدينة مصرية قديمة ،ووجدت قناة كانت تربط بينها وبين مدينة "سايس". 15 لقد تأثر اليونانيون باألمم الشرقية المجاورة التي اتصلوا بها في مبدأ تاريخهم واقتبسوا عنها الكثير من عناصر الحضارة.وفي مقدمة هذه األمم يأتي المصريون.ومنذ القرن السابع نرى الكثيرين من مشاهير اليونانيين يزورون مصر ويعجبون بحضارتها القديمة مثل "تاليس" و"فيثاغورس" و"صولون" و"أفالطون" و"ديموقريطس".وقد رأى اليونانيون أن المصريين لم يكونوا "برابرة" ،بل أمة عريقة في الحضارة متقدمة في الفنون والعلوم قبل اليونانيين باآلف السنين. ويذهب بعض العلماء اليونانيون ،مثل "هيرودوت" و"بلوتارخ" ،إلى أن مذهب "أورفيوس" وما يتضمنه من اعتقاد بالحساب بعد الموت إنما اقتبس عن عبادة "إيزيس" و"أوزريس" عند المصريين.ومن المحتمل أن يكون "تاليس" قد تعلم الهندسة من المصريين كثير من الصناعات اليونانية كالنسيج وسكب المعادن ونقش العاج مقتبسة عنهم. كما أن ًا شبها بينها وبين التماثيل وإذا دققنا في التماثيل التي صنعها أقدم النحاتين اليونانيين نالحظ ً بعيدا أن يكون المعماريون اليونانيون قد استوحوا المصرية واألشورية والفينيقية.وليس ً فكرة األعمدة الدورية من مشاهد المعابد المصرية. ر بالفينيقيي: ر اليونانيي عالقة في الدرجة الثانية بعد المصريين يأتي الفينيقيون بين األمم التي اتصل بها اليونانيون واقتبسوا الحضارة عنها.وقد استطاع الفينيقيون بين سنة ( 700 -1000ق. م ).أن يسيطروا على تجارة البحر األبيض المتوسط نتيجة لضعف الدولة المصرية تحت حكم األسرات ( )25 -21وأصبحت بالدها عرضة لغارات الليبيين واألحباش.وكانت 16 بالد اليونان بعد غارة الدوريين في حالة فوضى قد زالت منها معالم الحضارة اإليجية وسكنتها قبائل بدوية ،بعيدة عن فن المالحة وعاجزة عن انشاء األساطيل الكبيرة.وقد استفاد الفينيقيون الذين تجمعوا أوًال حول ملك "جبيل" ثم حول ملك "صيدا" ،من هذه األوضاع فأخذوا يجوبون في كل أنحاء البحر المتوسط وتقدموا في فن المالحة وصنع السفن.وازدهرت لديهم مختلف الصناعات مثل النسيج والصباغة والزجاج واتسعت تجارتهم.وكان النشاط التجاري يدفع الفينيقيين إلى االختالط بجميع األمم في حوض البحر األبيض المتوسط والقيام بدور الوسيط في تمازج الحضارات وانتشارها.فال عجب إذا رأينا اليونانيين تبهرهم بضائع الفينيقيين ويرحبون بالسفن الفينيقية التي كانت تحمل إليهم األواني الخزفية والزجاجية الملونة والتحف المصنوعة من العاج وبصورة خاصة األقمشة األرجوانية.وقد اسس الفينيقيون ًا كثير من المستعمرات والمراكز التجارية في جزر بحر "إيجة" وشواطئه ،وبالدرجة األولى في "ردوس" و"قوس" وخليج "قورنت". طبيعيا أن يتعلم اليونانيون أشياء كثيرة من الفينيقيين مثل صنع السفن ً لقد كان الكبيرة والصباغة.كذلك يبدو لنا تأثير الحضارة الفينيقية في عبادة "أفروديت" التي تشبه "عشتروت" عند الفينيقيين. على أن أهم شيء كان له أعمق األثر في الحضارة اليونانية وتطورها الفكري السريع هو اقتباس الحروف األبجدية.إن الكتابة الفينيقية قد استمدت عناصرها من الخطين المصري والبابلي كما يستدل من تدقيق األلواح الكتابية التي عثر عليها في طور سيناء ثم في رأس شمرة والتي تبين لنا مرحلة االنتقال من الكتابة التصويرية إلى الكتابة 17 عظيما ً تقدما الهجائية.وال شك في أن اختراع الحروف األبجدية من قبل الفينيقيين يعتبر ً خطير في تطور الحضارة البشرية.وأقدم كتابة بالحروف األبجدية الفينيقية قد ًا وعامال ً اكتشفت على تابوت الملك "احيرام" في "جبيل" والذي يرجع تاريخه إلى القرن الثالث عشر قبل الميالد. 18 القسم األول عصر البطالمة 19 الفصل األول الشق ر مقدون وحملته لفتح بالد ر اإلسكندر ال ي منذ منتصف القرن السادس قبل الميالد ظهرت دولة فارسية جديدة.هي الدولة األخمينية على مسرح السياسة في الشرق األوسط ،قضت على الدولة البابلية وورثتها في منطقة ما بين النهرين وبسطت نفوذها غرًبا فشملت معظم أجزاء الشرق األوسط بما في ذلك آسيا الصغرى وسواحل سوريا وفينيقيا وفلسطين ومصر االي فتحها "قمبيز سنة ( 525ف.م.).ومنذ ذلك الوقت ومصر تارة تخضع لحكم الدولة الفارسية وتارة أخرى تثور حتى عام ( 332ق.م ).حين حضر اإلسكندر األكبر. أما بالد اليونان فإنها لم تسلم من خطر هذه الدولة الفارسية الناشئة ،إذ استطاع "قورش" ،أول ملوكها ،من إخضاع المدن اليونانية على سواحل آسيا الصغرى الغربي، وبعد ذلك لم يكف خلفاوه عن محاولة غزو العالم اليوناني نفسه حتى استطاع "دارا" األول أوًال ،ثم "اكزرسيس" ثا ًنيا من غزو بالد اليونان واحتالل معظم أجزائها بما في ذلك "أثينا" ذاتها ،لوال هزيمة األسطول الفارسي في معركة "سالميس" سنة ( 480ق.م ).وفشل حملتهم نتيجة لذلك.ومنذ هذا التاريخ واإلغريق يرون في "فارس" عدوهم التقليدي ويجتهدون في االنتقام من الغزو الفارسي ،خاصة وأن "فارس" لم تفتأ طوال القرنين الخامس والرابع قبل الميالد من التدخل في شئون العالم اليوناني وتأليب المدن بعضها ضد بعض كلما سنحت لهم الفرصة حتى رأينا الملك الفارسي يظهر بمظهر الفيصل في منازعات المدن اليونانية وحروبها على نحو جرح كبرياء اإلغريق وجعلهم يتطلعون إلى 21 من يوحد كلمتهم ويقودهم في حرب مقدسة ضد الفرس.ولقد استطاع "فيليب" ملك "مقدونيا" جمع المدن اليونانية تحت زعامته ،إن رغبة وإن كرًها.ولكنه اغتيل أثناء استعداده لغزو "فارس" فخلفه ابنه "اإلسكندر" الذي نفذ خطة أبيه فقاد اإلغريق في حرب مقدسة ضد "فارس" في سنة ( 334ق.م.). في هذا الوقت كانت اإلمبراطورية الفارسية تعاني من داءين خطرين األول هو سوء اإلدارة في الواليات التي كانت تسمى "ساترابيات" ،واآلخر وهو األسوأ أنه تربع على عرشها ملك ضعيف متردد هو "دا ار الثالث" ولهذا سرعان ما أنهارت اإلمبراطورية الفارسية أمام عبقرية "اإلسكندر" الفذة.ولقد سلك "اإلسكندر" في حرب ضد فارس خطة غريبة، إذ بعد أن استولى على آسيا الصغرى وانتصر في معركة "إيسوس" سنة ( 333ق.م). جنوبا فاستولى لم يتتبع الملك الفارسي المنهزم شرًقا نحو عاصمته "صوصه".وإنما انحدر ً على سوريا وفينيقيا وفلسطين بعد معارك عنيفة عند سور غزة.بعد ذلك اتجه إلى مصر التي سلمها له الوالي الفارسي دون مقاومة واستقبله المصريون بالترحاب استقبال البطل المنقذ لهم من الحكم الفارسي الغاشم.خاصة وأن المصريين كانوا قد ألفوا اإلغريق كثير ما ناصروهم في ثوراتهم ضد "فارس" ،كما كان وجودهم كتجار في كأصدقاء ًا "نقراطيس" ،مصدر كسب كبير للمظارعين المصريين ومن أكبر عوامل تنشيط التجارة الخارجية لمصر كما بينا من قبل. ويرجع المؤرخون عادة تفسير خطة "اإلسكندر" الغريبة في عدم تتبع الملك نهائيا إلى عبقريته العسكرية في أنه أراد محاصرة األسطول ً الفارسي والقضاء عليه 22 الفارسي القوي عن طريق االستيالء على جميع السواحل في شرقي البحر األبيض المتوسط التي يمكنه أن يلجأ إليها ،وهي الخطة التي يوردها "أريانوس" على لسان أيضا أن شهرة مصر "اإلسكندر" في خطبة نسبها له في هذا الصدد.ولكن من المحتمل ً كمصدر هام للغالل كان له دخل كبير في توجيه خطة "اإلسكندر" هذه الوجهة ،إذ يمكن استخدامها كقاعدة لتموين المدن اليونانية من ناحية وتموين جيوشه الغازية شرًقا من ناحية أخرى. على أي حال وصل "اإلسكندر" بلوزيوم (الفرما) في خريف سنة ( 332ق.م). جنوبا على امتداد الفرع البلوزي للنيل حتى وصل إلى "ممفيس" ،وهناك سلمه ومنها اتجه ً البالد "مازاكسي" الوالي الفارسي على مصر.وال بد أن "اإلسكندر" شعر حينئذ أن آماله فعال ،وان مرحلة الخطر والمعارك الكبرى قد أنهت ،فهذه مصر أكبر وأغنى قد بأن تتحق ً قطر في الدولة الفارسية قد دانت له واستقبله أهلها بالترحاب استقبال البطل المنقذ. قائدا نابغة يحسن معاملة الناس ماهر بقدر ما كان ً ًا سياسيا ً كان "اإلسكندر" ودا ،فزار اإلله "بتاح" وقدم القرابين لآللهة، وكسب ودهم.فال أقل من أن يبادل المصريين ً مهرجانا ً عونا حسب التقاليد الدينية المصرية.بعد ذلك أقام ويقال أن "اإلسكندر" نصب فر ً موسيقيا رياض ًيا حسب التقاليد اليونانية ،اشترك فيه عدد من اشهر الفنانين والممثلين في ً بالد اإلغريق ،وال شك أن مثل هذا المهرجان كان يخدم غرضين في وقت واحد.أوًال هو وثانيا بمثابة ترفيه كان جنوده في أشد الحاجة إليه بعد استمرار النقلة وتوالي المعاركً ، 23 هو عرض أمام المصريين لجانب من الحضارة اليونانية التي خرج "اإلسكندر" يبشر بها ويقدمها للشرق. بعد ذلك اتجه "اإلسكندر" وجماعة من رجال إلى الشمال الغربي في زيارة إلى معبد اإلله "آمون" في واحة سيوة.فاتخذوا الفرع الجنوبي من النيل حتى الساحل ،ثم تتبعوا الساحل غرًبا حتى وصلوا قرية تعرف باسم "راقوده" تواجهها في البحر جزيرة تعرف باسم "فاروس" كما تقع إلى الجنوب منها بحيرة "ماريا" (أو مريوط).هناك قرر "اإلسكندر" تأسيس مدينة "اإلسكندرية" وأمر بأن تتخذ عاصمة لمصر.وتعتبر هذه المدينة أعظم ورمز لحضارة العصر الذي مركز ًا وأخلد أعمال "اإلسكندر" في مصر ،كما تصبح من بعد ًا ابتدأه "اإلسكندر". بعد أن انتهى "اإلسكندر" من معاينة مكان مدينته الجديدة واصل السير غرًبا مستأنفا رحلته لـ "سيوة" وكان خط سيره عن طريق الساحل الشمالي إلى "بريتونيوم" ً وفدا من إغريق "برقة" ،ثم (( )Paraetoniumمرسى مطروح) حيث استقبل فيما يقال ً جنوبا إلى "سيوة". اتجه ً بعد ذلك يتجه "اإلسكندر" نحو الشرق ليواصل فتوحاته ،ففي سبتمبر من عام ( 332ق.م ).يقضي على الجيش الثاني لإلمبراطور الفارسي في "جوجميلة" بأعلى نهر دجلة ويفتح له انتصاره هذا أبواب العواصم اآلسيوية الكبرى" :صوصة" و"برسوبوليس"، ويعقب هذا في ( 330ق.م ).باالستيالء على عاصمة "ميدية" والجلوس على عرش "فارس" ،ثم يوسع دائرة فتوحه فيصل إلى شاطئ بحر قزوين ثم إلى "بارثيه" ثم إلى "باكترة" 24 في ( 329ق.م ).وإلى حدود الهند في عام ( 327ق.م ).ويعود بعد ذلك إلى "بابل" حيث يموت في ( 323ق.م ).بعد إحدى عشرة سنة من حياة المعركة جعلت من صاحب سيدا للنصف الشرقي من العالم المعروف. السيطرة على اليونان ً شخصية اإلسكندر : ولكن هذه الفترة لم تكن مجرد سنوات من الغزو والفتح ،وإنما قدر لها أن تشهد عنصر آخر غير النشاط العسكري الذي أرتفع بـ "اإلسكندر" إلى الذروة ،وكان هذا العنصر ًا قائما حتى ذلك الوقت بين الغرب والشرق -بين هو النظرة الجديدة للحاجز الذي كان ً بالد اليونان والمنطقة التي كانت تمتد فوقها اإلمبراطورية الفارسية.لقد ظلت هذه النظرة موضع تساؤل حتى هذه اللحظة ،واختلف تفسيرها بين من ينادي بأن "اإلسكندر" أراد أن تاما بين حضارة الشرق وحضارة الغرب في كافة مزجا ً عالميا يمزج فيه ً ً نظاما ً يقيم الجوانب السياسية والثقافية واالجتماعية ،وبين من يقول أن "اإلسكندر" لم يقصد إلى شيء من هذا ،وإذا كان قد ظهر من بين أعماله ما يشير إلى هذا االتجاه فإنما كان من باب الدهاء أو االضطرار السياسي دون أن يقوم على أساس من اإليمان بفكرة أو مبدأ. الموقف عقب وفاة اإلسكندر : من أعقد مواقف التاريخ الذي نتج بعد وفاة "اإلسكندر" فجأة في يونيه سنة (323 ق.م ).ذلك أن هذه اإلمبراطورية المترامية التي أنشئها "اإلسكندر" في سرعة غريبة أقطار متباينة أشد التباين لم تسكن قد خضعت لنظام سياسي وإداري شعوبا و ًا ً وشملت 25 محكم يكفل لها البقاء واالستمرار.كما أن مسألة وراثة العرش لم يكن "اإلسكندر" قد تفرغ بعد لتنظيمها في الوقت الذي لم يكن له وريث شرعي. من أجل هذا عندما توفى "اإلسكندر" فجأة كان األمر بيد كبار قواده وأعواته في الحملة ،الذين كان لكل منهم أطماعه وآماله وقليل منهم من كان يؤمن بفكرة "اإلسكندر" عن وحدة العالم ومبدأ العمل على مزج الحضارات بين الشرق والغرب تنتج عن ذلك حضارة عالمية واحدة تجلب على اإلنسانية السالم والرخاء.ولكن من آل إليهم أمر اإلمبراطورية كانوا على النقيض من ذلك وكان االختالف بينهم يتوقف على مدى اختالف أطماعهم ،فمنهم من أراد اإلبقاء على وحدة اإلمبراطورية ليخلف "اإلسكندر" على رأسها مثل "برديكاس" ( )Perdicasأوًال و"أنتجونس" ( )Antigonusمن بعده ،ومنهم من كان يسعى للحصول لنفسه على إحدى الواليات ليستأثر بها ويؤسس فيها دولة مستقلة مثل "بطليموس" (.)Ptolemaeus هذا هو الموقف الذي نشأ في "بابل" عند وفاة "اإلسكندر" بها ولكن ما من شك أن "برديكاس" ،صاحب المركز األسمى في الحملة بعد "اإلسكندر" وبمثابة رئيس أركان حربه ،كان أقوى شخصية في "بابل" في ذلك الوقت ويبدو أنه كان موضع ثقة "اإلسكندر" الكاملة وأقرب الناس إليه ،حتى ليقال أن "اإلسكندر" حين حضرته الوفاة منح "برديكاس" خاتم الملك.لذلك لم يكن مستغرًبا أن يشعر "برديكاس" بأنه صاحب الحق األول في فعال أن يصل إلى التسوية التالية لتوزيع السلطة في تولي مقاليد األمور بنفسه ،واستطاع ً اإلمبراطورية. 26 بعد خالف بين القادة حول مشكلة الوراثة أتفق الجميع على أن يتولى العرش أخا غير شقيق ملكان هما "أريديوس" ( )Arhidaeusالذي لقب بـ "فيليب" الثالث ،وكان ً ولدا. لـ "اإلسكندر" والمولود المنتظر لـ "اإلسكندر" من "روكسانا" زوجته الفارسية إذا كان ً ولدا في أغسطس سنة ( 323ق.م ).وسمى "اإلسكندر" الرابع.بعد ذلك وجاء المولود ً وصيا ً منحت القيادة العليا للجيش في آسيا لـ "برديكاس" الذي استطاع أن يجعل من نفسه عاما على الملكين خاصة وأن "أريديوس" فيليب الثالث كان معروًفا بالبالهة وضعف ً العقل وعدم القدرة على الحكم بنفسه.أما القيادة في اليونان فقد منحت لـ "أنتيباتروس" ( )Antipatrosأكثر قواد "اإلسكندر" مكانة وشعبية بين الجنود. وكان "اإلسكندر" قد تركه لتدبير شئون "مقدونيا" في غيابه ولإلشراف على اليونان ،وقد بقى له هذا المنصب في التسوية الجديدة.هؤالء هم القادة الذين كانت لهم الكلمة العليا في بادئ األمر ،أما سائر أجزاء اإلمبراطورية فقد وزعت بين القادة األخرين واستمر العمل بالنظام الفارسي ،فكل والية سميت "ساتربية" وحاكمها "ساترًبا" ،ولكن يهمنا من هؤالء ثالثة سيصبحون فيما بعد هم واألسر المالكة التي انشأوها في والياتهم محور التاريخ في مدى القرون الثالثة التالية وهم "أنتجونس" ،و"سليوقس" ،و"بطليموس" بن الجوس الذي منحت له والية مصر. هكذا قامت في مصر أسرة جديدة ودولة جديدة ،وكان "بطلميوس" على علم تام مقدما مع "برديكاس" بأنه إذا ناصر ً بقيمة الغنم الذي فاز به ،ويقال أنه كان متفًقا "برديكاس" في صراعه من أجل السلطة سيعينه "برديكاس" ساترًبا على مصر.ولذلك لم 27 يضع "بطلميوس" وقتًا بعد صدور القرار بمنحة ساتربية مصر بل مضى إليها في الحال تاركا سائر القادة في خالفاتهم ومنافساتهم.وكأنه على يقين من المستقبل بأنه ليس مجرد ً حاكم معين من قبل السلطة المركزية ،وإنما هو مؤسس دولة جديد مستقلة. ملكا لمصر؟ ولكن من هو هذا الحاكم الجديد الذي أصبح فيما بعد ً جدا تكاد تنحصر في أنه كان ينتمي إلى إن معلوماتنا عن تاريخه األول قليلة ً أسرة تعتبر من صغار او أوسط النبالء في "مقدونيا".ويقال أنه تعلم وتربى في صباه في القصر الملكي المقدوني مع "اإلسكندر" كعادة أبناء النبالء.وفي أثناء حملة "اإلسكندر" اصبح احد أعضاء الحرس الخاص لـ "اإلسكندر" ،الذين لم يقتصر مهمتهم على مجرد السهر على سالمة الملك وإنما كانوا بمثابة مستشاري هيئة أركان حربه ً أيضا.ونعلم أنه أخلص اإلخالص كله في خدمة "اإلسكندر" وأنه أظهر تفوًقا وقدرة حربية عظيمة في معارك عديدة.وكان "بطليموس" إلى جانب هذا كله على جانب كبير من الثقافة ذا ذوق أبي وميل إلى دراسة التاريخ.فلم يقصر حياته أثناء حملة "اإلسكندر" على الواجب مستخدما في ذلك ً كتابا عن سيرة "اإلسكندر"، العسكري ،وإنما استغل هذه الفرصة وكتب ً معرفته الوثيقة بشخصية البطل الذي يكتب عنه ودرايته بكافة تفاصيل الحملة وأسرارها. سالما إال أن أجزاء منه قد وصلتنا في ورغم أن هذا الكتاب العظيم لم يصل إلينا ً كتابات الالحقين من المؤرخين الذين اعتمدوا عليه في التأريخ لعصر "اإلسكندر".وتمتاز كتاباته التي وصلتنا باإلتزان والرأي السديد والبعد عن المبالغات وغلبة حكم العقل على 28 كثير بوصف جدا أنه صحب "اإلسكندر" في مصر ألنه يهتم ًا حكم العاطفة.ومن المحتمل ً مصر والرحلة إلى واحة سيوة. وصفا لها ً أحدا من مصادرنا لم يذكر أما عن شخصية "بطليموس" فرغم أن ً مكتفين بوصف أعماله ،فإن العملة الفضية التي أصدرها "بطليموس" حاملة صورته على أحد وجهيها ،تظهر شخصيته على أنه حازم واقعي جم النشاط ذو عزيمة وإرادة قوية كبيرة على االحتمال والعمل.وبالرغم من أنه ال ينبغي المبالغة في االعتماد على مثل هذه األدلة ،إال أن ما نعرفه عن أعمال "بطليموس" السياسية والعسكرية تؤيد مثل هذا االستنتاج. ً عالميا اإلسكندرية عاصمة وملتق ميال من "نقراطيس" في االتجاه الشمالي الغربي ،وعلى على بعد حوالي أربعين ً مسافة بضعة أميال غربي فرع النيل القانوبي ،اختار "اإلسكندر" البقعة التي شيدت عليها مدينة "اإلسكندرية" ،وهي تقع على ذلك الشريط من اليابسة الذي يفصل البحر عن بحيرة مريوط.ويبدو أن "اإلسكندر" اختار هذه البقعة لجفافها وارتفاعها عن مستوى الدلتا، فضال ً وبعدها عن رواسب فرع النيل القانوبي ،وسهولة وصول مياه الشرب إليها ،وذلك عن قرب جزيرة "فاروس" وبحيرة مريوط منها.فقد قدر "اإلسكندر" أنه بمد جسر من تبعا التجاه هبوب الجزيرة إلى الشاطئ يمكن توفير مرفأين في هذا المكان ،يستخدم أيهما ً الريح ،وأن البحيرة يمكن استخدامها مرفأ للمراكب اآلتية من داخل البالد عن طريق النيل. 29 تماما أبرز ما اتسمت به هذه المنطقة من وجملة القول ان "اإلسكندر" أدرك ً مميزات جعلتها أفضل مكان على الشاطئ إلنشاء مدينة كبيرة. ولعل وجه الشبه بين موقع جزيرة "فاروس" تجاه شاطئ الدلتا وموقع صور على جزيرة تجاه الشاطئ اآلسيوي هو الذي لفت نظر "اإلسكندر" إلى ما يتوافر لموقع "اإلسكندرية" من مميزات ،فقرر على الفور إنشاءها دون تدبير سابق ،بدليل ما ترويه المصادر القديمة عن عدم توافر كمية كافية من الجير لتعيين مواقع األجو ار والمعابد وأسوار المدينة واالستعانة بالحبوب المخصصة لمؤنة الجنود إلتمام التخطيط مما اعتبر سعيدا ينم عما ستصيبه المدينة من الرخاء والرفاهية. ً فأال ً ويتضح أن "اإلسكندرية" كانت أول ميناء لمصر على مياه البحر المتوسط العميقة ،ألن "بلوزيون" -إذا صح ما يرويه "استرابون" -كانت تقع على فرع النيل البلوزي كثير عن البحر. على مسافة أربعة كيلومترات تقر ًيبا من البحر.وقد كانت "نقراطيس" تبعد ًا أما "قانوب" ،وهي التي كانت تعتبر ميناءها ،فإنها بحكم موقعها عند مصب النيل القانوبي وتعرضها للرواسب الطميية كانت ال تصلح للوفاء بالهدف المنشود.وإذا كانت "بلوزيون" قد احتفظت بمكانتها باعتبارها مفتاح مصر من ناحية الشرق -وترينا وثائق "زينون أن جماركها كانت عامرة في القرن الثالث بما يتدفق عليها من واردات سوريا- تبعا الزدياد أهمية "اإلسكندرية" التي جذبت إليها أنظار فإن "نقراطيس" تضاءلت" أهميتها ً الشرق والغرب ً معا وأصبحت تقوم بدور كبير في حياة مصر االقتصادية ،ال باعتبارها أيضا باعتبارها ميناءها األول.ذلك أنها كانت تستقبل من الخارج ما عاصمتها فقط بل ً 30 تحتاج إليه البالد فتوزعه عليها ،ويأتي إليها من كل أنحاء البالد ما يزيد على حاجتها مركز تجارًيا فحسب بل ًا فتصدره إلى مختلف األسواق الخارجية.ولم تكن "اإلسكندرية" هاما. صناعيا ً ً مركز أيضا ًا كانت ً وسرعان ما غدت "اإلسكندرية" أكبر مدينة إغريقية في العالم تفوق في اتساعها أكبر المدن القديمة" :أثينا" و"قورنثة" و"سراقوسة".وقد غدت كذلك في طليعة عواصم الحضارة اإلغريقية واستمتعت بمكان الصدارة في حلبة هذه الحضارة طوال القرنين الثالث والثاني قبل الميالد ،فال عجب ان خلعت أسمها على حضارة هذين القرنين. ومما ال شك فيه أن بناء قوات "بطلميوس" واستيالئه على الملحقات الطبيعية لمصر والسيطرة على الطرق البحرية المؤدية إليها لم تقتصر تكاليف طائلة فحسب بل أيضا فترة من الوقت غير قصيرة. ً أمنا من ويبدو أن "منف" بموقعها الداخلي وبتحصيناتها القوية كانت أكثر ً "اإلسكندرية" الواقعة على شاطئ البحر ،قبل تحصينها بأسوار منيعة وتأمين سالمتها بقوات بحرية كبيرة. يعا من مدينة "منف" المصرية العريقة إلى وأن قيام "بطلميوس" بنقل عاصمته سر ً مدينة "اإلسكندرية" اإلغريقية الحديثة ،بما ينطوي عليه ذلك من جرح مشاعر المصريين، كان ال يتمشى مع السياسة التي اضطرته ظروفه إلى اتباعها في بداية عهده ،وهي سياسة استرضاء المصريين ،لكي يجنحوا إلى الهدوء والسكينة وينصرفوا إلى استغالل موارد 31 البالد االقتصادية ،وما كان أحوج "بطلميوس" عندئذ إلى استتباب األحوال في البالد وإلى الحصول على أكبر قدر من األموال. لذلك فإنه في ضوء معلوماتنا الحالية ال نستبعد أن "بطلميوس" لم يتخذ "اإلسكندرية" عاصمة له إال في عام ( 311 /312ق.م ).بعد االنتصار الباهر الذي أحرزه عند "غزة" في حملة ذلك العام ،وأقضى إلى استعادته جوف سوريا وكذلك إلى استعادة "سلوقس" والية بابل ،حيث أصبح شوكة غليظة في جانب "انتيجونوس" وهو الذي كان أكبر خطر يتهدد "بطلميوس" منذ عام ( 316ق.م.). 32 الفصل الثاني البطلم والفلسفة الدينية ي نظام الحكم أتخذ البطالمة ألنفسهم صفة كونهم أحفاد الفراعنة ،وهؤالء حكموا مصر باعتبارهم آلهة بين البشر ،وبذلك أصبح الملوك البطالمة في نظر المصريين يحكمون مصر باعتبارهم ورثة عرش الفراعنة ،أي على أساس نظرية الحق اإللهي المطلق ،فكرة تأليه الملوك البطالمة لم تقتصر على المصريين بل امتدت إلى جميع سكان مصر بما فيهم اإلغريق أنفسهم. البطالمة ينصبون أنفسهم فراعنة: لقد ساءت أحوال مصر االقتصادية إلى أبعد الحدود خالل القرنين الخامس والرابع قبل الميالد أثناء الحكم الفارسي للبالد والثورات المتتالية التي قام بها المصريون في ذلك الحين.وقد صاحب كل ذلك حالة من الفوضى اإلدارية واالضطراب السياسي. ومن هنا كان على البطالمة أن يعيدوا تنظيم شئون مصر االقتصادية واإلدارية ،وحتى يمكنهم ذلك كان ال بد من ظهور السلطة المركزية القوية ،وكان من المنطقي أن تظهر تلك السلطة من جديد في شكل الملوك الفراعنة.وهكذا عمد البطالمة إلى تنصيب أنفسهم يجيا وعلى ما سنرى فيما يلي: فراعنة في مصر ،وقد تم لهم ذلك تدر ً ً اإلسكندر ينصب نفسه فراعنا لمرص: 33 لقد عرفنا أن "اإلسكندر" قد قدم القرابين في معبد "بتاح" بمجرد وصوله إلى "منف" كما قدم القرابين للعجل "أبيس" على عكس ما فعله ملوك الفرس.ولكن األقاويل أضافت عونا لمصر في معبد "منف" ،وأن ذلك التتويج قد تم بنفس أن "اإلسكندر" قد تم تتويجه فر ً األسلوب والطقوس التي كانت متبعة مع الفراعنة المصريين والبعض يشكك في صحة هذه الرواية ،ولكن الجانب األكبر يرى صحتها. عونا في "منف" أنه عند وصوله إلى معبد والدليل على أن "اإلسكندر" قد توج فر ً "آمون" بواحة سيوة قد سمحوا له بدخول "قدس األقداس" ولم يكن يسمح لغير الفرعون بذلك.كما نعلم أن كبير الكهنة في سيوة قد نادى "اإلسكندر" باسم ابن "آمون" وهذا اللقب ال يحمله سوى الفرعون.كما أن النقوش المصرية التي تتحدث عن "اإلسكندر" تذكر مشفوعا بثالثة من األلقاب الرسمية التي كان يحملها الفراعنة فهي تقول عنه أنه ً اسمه أخير "ابن رع".وحورس هو أول ألقاب "حورس" وكذلك أنه يحمل لقب "نسوت بيتي" و ًا الفراعنة ،ونسوت بيتي معناها سيد القطرين ،وقد كان ذلك هو رابع األلقاب الرسمية للفراعنة ،أما ابن رع فقد كان خامسها وآخرها في الترتيب. لقد علمنا أن ورثة "اإلسكندر" كانوا أخاه غير الشقيق "فيليب إرهيدايوس" وابنه المسمى "اإلسكندر الرابع" ،ولكن أيًّا منهما لم يضع قدميه على أرض مصر ،ومن ثم ال رسميا كفرعون للبالد. ً يتصور أن يكون أي منهما قد توج ولكن القائد "بطلميوس" قد عنى منذ أول لحظة لتوليه إدارة مصر بأن يبرزهما كليهما كفرعونين للمصريين.وقد تم له ذلك ألنهما وريثان شرعيان لـ "اإلسكندر".وهذا 34 كال عونا للبالد ،ومن ثم اعتبرهما فرعونين مثله.وتحمل إلينا الوثائق أن ً األخير كان فر ً منهما قد حمل األلقاب الفرعونية الخمسة التقليدية. البطالمة األوائل يتشبهون بالفراعنة: لقد فهم القائد "بطلميوس" من الوهلة األولى مدى أهمية مركز الفرعون في قلوب المصريين ،ومدى الفائدة التي تعود عليه إذا توصل إلى حمل لقب "فرعون" ،وخاصة أنه كان ينوي وضع يده على مقاليد الحكم في مصر.والوثائق تكشف أن البطالمة لم يتوصلوا إلى تنصيب أنفسهم فراعنة والتتويج طبًقا للطقوي المصرية إال بعد فترة من الوقت. ولكن رغم عدم حمل البطالمة األوائل لقب فرعون وعدم مرورهم بطقوس وإجراءات التتويج فإن هؤالء الحكام األوائل قد أخذوا يتشبهون بالفراعنة المصريين في مظهرهم وفي تصرفاتهم. وأول ما قام به البطالمة في سبيل التشبه بالفراعنة المصريين هو حملهم لأللقاب التي اعتاد الفراعنة حملها ،وذلك بجوار ألقابهم اإلغريقية.ونحن نعرف أن األلقاب التي اعتاد الفراعنة حملها تعبر عن مدى اإلخالص لآللهة المصرية وعن الصلة التي تقوم وضوحا من عهد الملك ً بين تلك اآللهة وبين الفرعون.وقد ظهر حمل ألقاب الفراعنة أكثر البطلمي الثاني "فيالدلفوس" إذ حمل األلقاب التقليدية الخمسة للفراعنة ،بينما حمل "بطلميوس" األول اللقبين الرابع والخامس والمقصود بهما من يحكم القطرين و"ابن رع". ولكن مع حمل البطالمة األوائل ألقاب الفراعنة المصريين ،ومحاولتهم التشبه بالفراعنة فإنهم كانوا يقفون أمام اإلغريق بوجه مغاير ً تماما ،فالوثائق اإلغريقية التي 35 وصلت إلى أيدينا كانت تغفل ذكر األلقاب الفرعونية بينما تركز على األلقاب اإلغريقية. فعلى سبيل المثال عثر على نص إغريقي يذكر "بطليموس" الثالث على أنه "بطليموس بن بطليموس ،وأرسينوي اإللهين األخوين ،شيد لإلله سرابيس المعبد والسياج المقدس". بينما نجد نفس النص ولكن باللغة المصرية يتحدث عن نفس الملك على أنه "ملك الجنوب والشمال ،وريث اإللهين األخوين الذي اختاره آمون ،حياة رع القوي ،ابن رع ،بطلميوس أبدا حبيب بتاح قد شيد هذا المعبد". المعمر ً بطليموس الرابع وخلفاؤه ينصبون فراعنة: لقد حمل "بطليموس" الرابع جميع ألقاب الفراعنة ،ولم يكتف بأن يرد ذلك في الوثائق المدونة بالمصرية فقط ،بل لقد أصر على أن يظهر تلك األلقاب في الوثائق ملكا باإلغريقية بل إن هناك عدة قرائن تحمل على القول بأن نفس هذا الملك قد توج ً عونا طبًقا للطقوس الفرعونية.واألرجح أن هذا الملك البطلمي قد لجأ إلى تنصيب نفسه فر ً مضطر أن ًا الضط ارره إلى ذلك ،إذ مرت به ظروف قاسية في الخارج والداخل ،فقد كان يواجه "أنطيوخوس" الثالث حاكم سوريا وأن يستعين بجنود مصريين لعدم كفاية جنوده اإلغريق ،وأن يواجه ثورات شعبية داخلية. وإذا كانت القرائن هي التي دعتنا إلى القول بأن "بطليموس" الرابع قد توج كفرعون لمصر ،فإن الشك لم يعد له مجال بالنسبة لتنصيب "بطليموس" الخامس "أبيفانس" واألدلة من اآلثار على ذلك كثيرة ولعل من أشهرها النص الوارد على حجر رشيد الذائع الصيت والذي حمل ألقاب الفرعون باإلغريقية والهيروغليفية والديموطيقية ويتضمن قرًا ار أصدره 36 وداخليا ً خارجيا ً الكهنة المجتمعون في "منف" عام ( 196ق.م.).ويبدو أن سوء األحوال كان السبب الدافع في لجوء هذا الملك إلى التتويج كفرعون للبالد. أما بقية البطالمة فقد لجأوا إلى التتويج لألسباب السابقة ولدوافع إضافية ،إذ ظهرت االنقسامات بين أفراد األسرة المالكة ،كما ظهر نفوذ قوي لروما في مصر.وعلى كل حال تحمل إلينا النقوش على المعابد كيف توج كل من الملوك البطالمة واأللقاب التي حملها. 37 الفصل الثالث السياسة الخارجية للبطالمة ينقسم موضوع السياسة الخارجية للبطالمة ،إلى مراحل زمنية ثالثة :المرحلة األولى :وهي تمتد عبر الفترة التي تشمل حكم البطالمة الثالث والشطر الذي ينتهي بمعركة "رفح" ( 217ق.م ).من حكم "بطليموس" الرابع ،وفيها نجد السياسة الخارجية فعاال ،والمرحلة الثانية عنصر ً ًا المصرية تتخذ شكل مد إيجابي يجعل من سياسة حكامها يشغلها بقية حكم البطالمة حتى بداية عهد "كليوباتره" السابعة -آخر افراد البيت الحاكم شكال جزرًيا يقابل المد السياسي الذي البطلمي -وفيها تتخذ السياسة الخرجية المصرية ً عرفته في المرحلة األولى ،فينقلب موقف مصر من اتجاهه اإليجابي إلى سلبية تنحدر أخير تأتي المرحلة بدال من دور التحفز واالنطالق.و ًا به إلى وضع االنتظار واالستقبال ً جديدا يتمثل في طموح ً موقفا الثالثة التي يشغلها حكم "كليوباتره" السابعة ،وفيها نجد ً الملكة المصري البطلمية إلى مد نفوذها بشكل لو تحقق لجعل حدود هذا النفوذ مطابًقا طبيعيا أن يؤدي هذا الطموح اإليجابي إلى ً لحدود اإلمبراطورية الرومانية نفسها ،وقد كان صراع "كليوباتره" مع القيادة العسكرية والسياسية للعالم الروماني ولكن هذا االتجاه ال يلبث أن يالقي نهاية سريعة حين ينهار حلم "كليوباتره" بعد أن تنهار خططها امام القوات المناوئة في روما ،ثم تنهار بالتالي الدولة البطلمية لتصبح مصر إحدى الواليات التي تدور في فلك اإلمبراطورية الرومتنية.ولنبدأ الحديث عن المرحلة األولى. التوسع للبطالمة ر يف المرحلة األوىل: ي االتجاه 45 في هذه المرحلة نجد أنه فيما عدا المناسبتين اللتين تعرضت فيها مصر للغزو المباشر من جانب "برديكاس" في ( 321ق.م ).ومن جانب "أنتيجونوس" في ( 306ق. م ).فإن سياسة البطالمة كانت تتسم في هذه المرحلة بالطابع أو االتجاه التوسعي إذ تمخض الصراع بين خلفاء "اإلسكندر" آخر األمر عن قيام دول على أنقاض إمبراطورية "اإلسكندر" األكبر ،وكانت دولة البطالمة عندئذ أقوى هذه الدول ،أي اقوى دولة في العالم الهلينيتي ،تليها دولة السلوقيين ،وكانت تشمل واليات إمبراطورية "اإلسكندر" في بالد ما كبير من آسيا الصغرى وسوريا وجانبا ًا ً بين النهرين وكذلك أغلب الواليات الشرقية البعيدة، (فيما عدا جوف سوريا).وكانت الدولة الثالثة هي مقدونيا ،وكانت تعتبر نفسها سيدة فعال على بعضها مثل "خالقيس" المدن اإلغريقية في شبه جزيرة البلقان وتسيطر ً و"قورنثه". وقد كانت لكل من هذه الدول حاجاتها ومراميها وكذلك خطتها ووسائلها لتحقيق ذلك ،وعلى الرغم من أن مصر خرجت من الصراع العنيف بين خلفاء "اإلسكندر" أقوى وأغنى دولة هلينيتية ،فإنه ال "بطليموس" األول وال الثاني فكر في إعادة تكوين إمبراطورية "اإلسكندر" ،فقد كان هدفها األساسي ،على نحو ما مر بنا ،هو الدفاع عن استقالل مصر الكامل ولعب الدور األول في حلبة السياسة وفي مضمار االقتصاد في العالم الهلينيتي. ونالحظ أنه في أغلب األحيان كان "بطلميوس" يتفادى تعريض مصائر مصر خطيرا ،وليس مرد ذلك ،كما يزعم بعض مؤرخي الغرب ،إلى أنه كان يسيطر ً يضا تعر ً ميال للحرب من شعوب مقدونيا وتراقيا وآسيا ،فهو لم يعتمد على المصريين على شعب أقل ً 46 في جيشه ،وإنما مرد ذلك إلى عاملين آخرين وأحدهما هو أنه كان يعتمد في تكوين جيشه كثير وتحت رحمة الظروف المختلفة وعرضة للنقص على التجنيد الخارجي وكان يكلفه ًا تماما أن مصر كانت بل لالنقطاع كلية ،والعامل اآلخر هو أن "بطليموس" كان يدرك ً دعامة قوية ألنها كانت المصدر الرئيسي لثروته والمركز الذي يبني حوله صرح إمبراطورية تكفل له االستقالل السياسي واالقتصادي ،وأن قواته كانت الدرع الواقي لمصر، ومن ثم فإنه كان ال يجوز المخاطرة بتعريض مصر لألخطار بالزج بقواته في حروب ال تمس سالمة مصر أو ال تخدم صوالحها المباشرة. معنيا بالفوز باستقالله والذود عنه قد حاول تحقيق وكذلك حين كان "بطليموس" ً هدفين اثنين :كان أحدهما هو بسط نفوذه على األقاليم التي تجاور مصر وتعتبر ملحقاتها الطبيعية ،فإنه ما كاد يصل إلى مصر حتى استولى على "قورينائه" لحماية حدود مصر الغربية ،وعندما وطد مركزه في مصر بانتصاره على "برديكاس" ،وجه اهتمامه إلى االستيالء على جوف سوريا وفينيقيا وقبرص واالحتفاظ بها ،وذلك من أجل حماية حدود مصر الشرقية والحصول على المعادن واألخشاب التي يفتقر إليها وادي النيل والسيطرة على أهم منافذ طريقي الوسط والجنوب للتجارة الشرقية ،وكان الهدف اآلخر تأمين سيادة مصر على بحر إيجة. مفهوما أن السيطرة على عصبة جزء القوقالد ،وهي التي فاز ً ويجب أن يكون بها اوًال "سوتير" ثم وطد دعائمها "فيالدلفوس" ،كانت ال تكسب مصر إال سيطرة جزئية سياسية واقتصادية على بحر إيجة ،والستكمال هذه السيطرة حاول "فيالدلفوس" االستيالء 47 على شواطئ آسيا الصغرى الجنوبية والغربية ،وبسط نفوذه على المراكز التجارية الهامة على ضفاف الدردنيل وبحر مرمرة وشاطئ البحر األسود الجنوبي وكذلك فإن السيطرة على بحر إيجة دفع البطالمة األوائل إلى محاولة تقوية نفوذهم في أهم الموانئ اإلغريقية ليمنعوا حكام "مقدونيا" من أن يصبحوا أقوياء في البحر ،ولم يمل هذه السياسة على البطالمة اعتبارات اقتصادية فحسب ،إذ كانوا يعتبرون سيطرتهم على بحر إيجة أساس كيانهم السياسي ومصدر قوتهم ،ذلك أن عزلتهم في مصر كانت تضعفهم أمام دولة السلوقيين وكانت في قبضتاه المدن اإلغريقية في األناضول ،وأمام "مقدونيا" وكانت تسيطر على إغريق البلقان ،في حين أن سيطرة البطالمة على الطرق التجارية في بحر إيجة وعلى جوف سوريا كانت توفر لهم موارد جمة من الرجال واألموال ،ولم تكن سيطرتهم على الطرق البحرية في حد ذاتها ،بل وسيلة لتحقيق أهدافهم السياسية. جليا مما مر بنا أن أهداف "بطليموس" الثاني الخارجية كانت أهداف ويتضح ً "بطليموس" األول نفسها في الجوهر ،إال أنه ذهب إلى مدى أوسع في تنفيذ السياسة الخارجية التي وضع أبوه أساسها ،ذلك أنه عمل على دعم حدود مصر الغربية والجنوبية والشرقية ،وعلى استكمال أسباب سيادة مصر في بحر إيجة ،وعنى بالتجارة الجنوبية كبير إلى التجارة الشرقية ،ونستدل على ذلك من حملته على األنباط وتوطيد اهتماما ًا ً ووجه سلطان مصر في فلسطين وشرق األردن وفينيقيا ،ومن االستيالء على بعض أجزاء في "أيونيا" حيث كانت توجد بعض منافذ طريق الوسط ،وكان أهم الطرق التجارية اآلتية من اهتماما بالتجارة مع الغرب ،فهو لم يقم عالقات مع ً أواسط آسيا ،ولم يكن أقل من ذلك روما فحسب ،بل كانت بينه وبين "سراقوسة" و"قرطجنة" عالقات وثيقة. 48 وإذا كانت الحرب السورية الثانية قد سلبته "أيونيا" وسيادة بحر إيجة ،وكان قد نزل عن أغلب ممتلكاته على شواطئ آسيا الصغرى الجنوبي ،فإنه عمل على تأمين قويا ،وسرعان ما نجح سليما ً جوف سوريا وادماج "قورينايئة" في مملكته ليبقى كيان الدولة ً في تشييد أسطول جديد واسترد سيادة بحر إيجة ،وعلى الرغم من المبالغ الطائلة التي أنفقها على مجهود مصر الحربي وفي سبيل تأييد سياسته الخارجية ،فإن الخزائن الملكية بقيت مكتظة باألموال وكان سلطانه وطيد الدعائم في البالد. ويرى بعض المؤرخين أن حصول البطالمة على ممتلكات شواطئ آسيا الصغرى من "قيليقيا" إلى الدردنيل ،وكذلك في "تراقيا" ،يشير إلى أنهم لم يرموا إلى اإلشراف على الطرق البحرية المؤدية إلى اإلسكندرية فحسب ،بل إلى رغبتهم في االستيالء على كل بحر إيجة من أجل الحصول على سيادة العالم -تلك الرغبة التي كانت الدافع وراء مشروعات كافة القوى المتنافسة في العالم المتأغرق منذ بداية القرن الثالث ،ويرى الدكتور إبراهيم نصحي أن البطالمة لم يرموا فقط إلى االكتفاء باإلشراف على الطرق البحرية أيضا إلى االستيالء على أهم منافذ الطرق المؤدية إلى اإلسكندرية ،بل كانوا يرمون ً التجارية اآلتية من أواسط آسيا ،وذلك للتحكم في التجارة الشرقية الهامة ولضمان سيادة بحر إيجة ،ال من أجل الحصول على سيادة العالم وإنما من أجل ضمان استقالل مصر وقوتها وثرائها كما سلف القول ،ولو أن البطالمة كانوا يرمون حًقا إلى سيادة العالم، النتهزوا ما سنح لهم من الفرص التي كانت مواتية لمثل هذه األطماع الجامحة ،لكن نشوة النصر لم تسكرهم ،فقد عرفوا كيف يكبحون جماح أطماعهم في ساعات انتصارهم، ولذلك عمرت دولتهم أطول من أية دولة هلينستية أخرى. 49 ويتضح بجالء من استعراض فتوحات "بطليموس" الثالث أنه اقتفى في سياسته الخارجية خطوات أبيه وجده ،وهي السياسة التي كانت تهدف غلى المحافظة على استقالل مصر والحصول على ما تفتقر إليه من المواد الضرورية ،والسيطرة على طرق البحرية المؤدية إلى مصر ،واالستيالء على اهم منافذ الطرق التجارية الوافدة من أواسط آسيا ،أو بعبارة أخرى استقالل مصر ،وسيادة بحر إيجة من أجل ضمان سالمة مصر وقوتها وثرائها. وعندما تولى "بطليموس" الرابع عرش مصر اعتقد "أنتيوخوس" الثالث ان الفرصة قد سنحت لسلب مصر جوف سوريا ،غير أن "بطليموس" أعاد تنظيم الجيش وأدمج في كبير من المصريين يعزى إليهم الفضل األكبر في االنتصار في موقعة رفح عددا ًا قواته ً عام ( 217ق.م ).على جيوش "أنتيوخوس" اإلغريقية وعاد الملك المهزوم ليعمل بنشاط من أجل إعادة بناء إمبراطوريته وسلب البطالمة جوف سوريا ،ذلك االقليم الذي أصبح دائما للنزاع بين هاتين المملكتين. سببا ً منذ عهد "بطليموس" األول ً فاصال بين العهد الذي بلغت ً وقد اتفق المؤرخون على اعتبار موقعة "رفح" ً حدا فيه دولة البطالمة أقصى اتساعها وقمة مجدها والعهد الذي أخذت فيه عوامل الضعف واالضمحالل تدب إليها. الرومان ر يف مرص خالل المرحلة الثانية: ي ر التدخل تخلصت روما من الخطر القرطاجي في موقعة "زاما" ( 202( )Zamaق.م). واطمأنت بذلك بعض الشيء لمركزها في غربي المتوسط ،لم تلبث أن وجهت اهتمامها 50 لمعالجة الوضع الناجم عن األطماع المتضاربة لحكام سوريا ومقدونيا ،الذين يتحفزون البتالع ممتلكات مصر والسيطرة على النصف الشرقي للبحر المتوسط ،وهكذا وجدت روما نفسها مدفوعة ،في سبيل المحافظة على قوتها الجديدة ،غلى التدخل لوضع حد لنشاط هؤالء الحكام وتحت هذه الظروف ونتيجة لها ،بدأت مصر تعرف روما ،ال كنظير يقف منها على قدم المساواة كما كان الحال أيام "فيالدلفوس" ،ولكن كقوة كبرى لها صفة جديدة ووضع جديد. فروما لم تتدخل في شئون مصر إال لتحد من أطماع واحد أو أكثر من أعدائها حين كان مجلس الشيوخ الروماني يجد في مد هذه األطماع عبر حدود مصر أو أمالكها ما يؤدي إلى تضخم قوة أحد حكام العالم المتأغرق المعادين لروما ،مما يعرض نفوذها للخطر في الشرق ،فإذا لم يكن هناك خطر خارجي على مصر لم تتدخل روما إال حين يثور النزاع األسري على العرش بين أفراد البيت الحاكم البطلمي. بدأ هذا التدخل في ( 190ق.م ).ففي السنة السابقة لهذا التاريخ وجد "بطليموس" مزدوجا ،إذ كان "أنطيوخس" الثالث (الملك ً تهديدا ً الخامس (ابيفانيس) نفسه يواجه السلوقي) و"فيليب" الخامس (ملك مقدونيا) قد اتفقا فيما بينهما على اقتسام أمالك مصر، وأمام هذا الخطر المحدق بمملكته بعث الملك البطلمي إلى روما يستعديها على "أنطيوخس" ودعم رسالته بهدية من القمح والمال وبعرض يضع بموجبه موارد مصر تحت تصرف روما ،وقد رفضت روما العرض والهدية ،ولكنها بانتصارها على القوات السلوقية في موقعة "ماجنيسيه" في ( 190ق.م ).وبمعاهدة "أباميه" بعدها بسنتين 51 كال من "أنطيوخس" و"فيليب" وأصبحت المتصرفة في شئون الشرق استطاعت أن تستذل ً ماديا سواء في مصر أو خارجها ولكن كسبا ً بما في ذلك مصر ،حقيقة أن روما لم تجني ً الدعوة التي وجهها إليها ملك مصر ،والموقف الحاسم الذي وقفته روما من أعدائه ،وإن آخر لصالح النفوذ الروماني في الشرق إال أنه وضع مصر في وضع التابع كان أوًال و ًا من روما. على أن موقف "بطليموس" الخامس لم يكن إال الحلقة األولى من سلسلة المواقف التي ربطت مصر بصفة نهائية بعجلة النفوذ الروماني ،ففي عهد خلفه "بطليموس" السادس يتكرر الموقف السابق مع اختالف طفيف في التفاصيل فحين يحاول ملك مصر استرداد األمالك المصرية في فلسطين يرد "أنطيوخس" الرابع بدخول مصر ومحاصرة اإلسكندرية ( 168 -170ق.م ).وهنا مرة أخرى ،يستنجد الملك البطلمي بروما ويتدخل مجلس الشيوخ الروماني بصورة حاسمة فيرسل مبعوثه "بوبليوس اليناس" ليفض هذا الموقف الذي قد يؤدي إلى تقوية نفوذ الملك السلوقي على حساب النفوذ الروماني ويقال في هذا المجال ان مبعوث مجلس الشيوخ حين أمر "أنطيوخس" باالنسحاب من مصر فورا ،رسم بعصاه دائرة حول المكان الذي يقف فيه هذا الملك وطلب إليه أن يعطيه جو ًابا ً قاطعا بالموافقة أو الرفض قبل أن يخطو خارج هذه الدائرة ،وسواء أصحت الرواية أم ً قصد بها القاء ضوء مسرحي على الموقف الحاسم الذي وقفته روما ،فقد انسحب "أنطيوخس" من مصر وبذلك أصبح الملك المصري ً مدينا بعرشه لروما. 52 ولم يكن هذا الموقف الوحيد الذي دعم نفوذ روما في مصر في عهد هذا الملك، فقد ثار موقف آخر حين تنازع "بطليموس" السادس مع أخيه األصغر "بطليموس يوارجيتس" الثاني على العرش ،وحاول كل منهما أن يحصل على تأييد مجلس الشيوخ الروماني لكي ينفرد بالحكم ففي ( 164ق.م ).يسافر األخ األكبر إلى روما ويحصل على تأييد منها بأن تكون له مصر وكل الممتلكات المصرية خارج الحدود ،وفي السنة ملكا التالية يسافر األخ األصغر بدوره ويقنع مجلس الشيوخ بتعديل ق ارره السابق وتنصيبه ً على قبرص (أحد الممتلكات المصرية) ولكن روما في مواقفها ال تدعم تأييدها بأية مساعدة مادية ألحد األخوين ،وهكذا يستمر النزاع بينهما ويتكرر ذهاب كل منهما إلى هنا على والئه لها بشتى الطرق ،ويتكرر ً تبعا لذلك موقف طاال العون والتأييد ومبر ً روما ً روما من تأييد هذا مرة وذاك مرة أخرى دون حسم النزاع بشكل نهائي وواضح أنها كانت ترى في استمرار هذا النزاع ما يزيد من تدعيم نفوذها على أساس نظرية فرق تسد التي بلورها الرومان إلى حد كبير. طابعا ينبئ بأن فترة التدخل السلبي قد ً أما التدخل الذي اعقب ذلك بدأ يأخذ استنفذت غرضها وأن فترة أخرى تتسم بطابع أخر مختلف قد أصبحت وشيكة البدء وذلك عندما احتدم النزاع األسري بين أفراد األسر البطلمية بعد وفاة "بطليموس" السادس وما تاله من منافسة أميرتين من أعضاء البيت المالك لـ "يوارجيتس" الثاني وانتشار األحقاد والمنافسات والمؤامرات. 53 ويتزايد التدخل الروماني في شئون مصر في عهد "بطليموس" الثاني عشر الذي قضى كل فترة حكمه ( 51 -80ق.م ).يدافع عن عرشه مرة أمام اعتراف روما به ومرة أما ابنته "بيرينيكي" الرابعة التي كانت تطمع في هذا العرش ومرة أما الشعب السكندري الذي ناصبه العداء في أكثر من مناسبة. وقد ميز هذه الفترة من التدخل الروماني في شئون مصر ،عدد من العوامل التي لم تظهر في خالل الفترات السابقة ،أول هذه العوامل هو أن المسألة المصرية بدأت تدخل كعنصر هام في برامج األحزاب المتصارعة على الحكم داخل روما ،كل يحاول أن جاهدا على احباط مساعي الحزب المناؤى ً يكون له السبق في االستيالء عليها بينما يعمل في هذا السبيل ،والعامل الثاني الذي ميز هذه الفترة هو التدخل العسكري الروماني في مصر.حقيقة أن التدخل يمكن اعتباره مجرد مغامرات شخصية متفرقة لغرض عسكري أو سياسي ،ولكن رغم ذلك كان هذا التدخل العسكري سابقه إشارات دون شك إلى أن التدخل المساح في مصر أصبح مسألة واردة ومتوقعة. وظهرت إلى جانب ذلك عوامل أخرى ،فقد بدأت روما تتحين الفرص لتقتطع أجزاء من الممتلكات المصرية ثم تحويلها بصفة نهائية إلى واليات رومانية كما حدث ذلك في "برقة" التي مات ملكها في عام ( 96ق.م ).بعد أن أوصى بها لروما.وفي بداية األمر تركت روما األمور الداخلية تحت أمرة أحد أفراد البيت البطلمي ،ولكن في ( 74ق.م ).حولت "برقة" إلى والية رومانية وعين لها حاكم روماني.وكما حدث ذلك أيضا في عام ( 58ق.م ).حين قدم "كلوديوس" ،أحد أعوان "يوليوس قيصر" ،مشروع ً 54 قانون يقضي بأن تصبح "قبرص" (وكانت من ممتلكات مصر) والية رومانية ،وقد تمت الموافقة على هذا المشروع وأرسل مجلس الشيوخ "ماركوس كاتو" إلى الجزيرة لكي يقنع ملكها المصري بأن يوصي بمملكته لروما ،وقد آثر الملك ،أمام الضغط الروماني أن حدا لحياته ،وهكذا انتقل جزء آخر من الممتلكات المصرية إلى روما. يضع ً أخرا ،فقد أخذ الساسة الرومان يدخلون في اعتبارهم ،فيما أخيرا ،وإن لم يكن ً و ً كبير من قبل ،ذلك هو ثروة البيت المالك انتباها ًا ً عنصر لم يكونوا يعيرونه ًا يتعلق بمصر، المصري ،لقد رأينا في مناسبة سابقة كيف رفضت روما الهدايا المصرية من القمح والمال وعروض ملك مصر بوضع موارد مملكته تحت تصرف الرومان في سبيل مساعدته في وجه الخطر السلوقي المقدوني المشترك الذي كان محدًقا به ،أما اآلن فقد تغير الموقف كليا بحيث أصبح ما كان يرفض باألمس هو قاعدة التعامل المعترف بها فملك تغير ً ًا مصر ال يتوانى عن بذل الرشاوى الباهظة ليحصل على اعتراف روما بعرشه ،وأولو األمر في روما ،سواء من القادة أو زعماء األحزاب السياسية أو أعضاء مجلس الشيوخ يدخلون في برامجهم ً جانبا لهذه الرشاوى بل ويطلبونها إن لم تأت من تلقاء نفسها. لقد حدث ذلك في ( 60ق.م ).عندما ظفر "يوليوس قيصر" بمنصب القنصلية وأصبح في مقدوره أن يستغل ما لهذا المنصب التنفيذي في روما من وزن فأرسل إلى ثمنا العتراف روما بوضعه كملك "بطليموس أوليتيس" يطلب مبلغ ستة آالف تالنتًا ً لمصر ،ويسارع الملك البطلمي فيدفع المبلغ المطلوب يفتدي به عرشه وتكون النتيجة هي قانونا في أوائل السنة التالية تعترف فيه أن يمرر قيصر -رغم معارضة األرستقراطيينً - 55 عيا لمصر ،وتدعمه بمعاهدة يصبح بمقتضاها الملك ملكا شر ً روما بـ "بطليموس أوليتيس" ً "حليفا وصديًقا للشعب الروماني. ً المصري وقد تكرر الوضع مرة أخرى بين ( 55 -58ق.م ).حين احتدم النزاع بين "بطليموس أوليتيس" وشعب اإلسكندرية فقد ذهب الملك الذي كاد يفقد عرشه ،إلى روما ليحصل على التأييد الالزم لموقفه وفي سبيل ذلك وزع على الساسة وأصحاب النفوذ من الرومان كل ما معه من هبات وأموال ،بل واضطر فوق ذلك أن يستدين مبالغ طائلة لكي يتمكن من تقديم هذه الرشاوي ،ويمكننا القول أنه نجح بهذه الطريقة في أن يشتري تأييد جميعا ،حسبما يذكر لنا "شيشرون" في دفاعه عن "رابيريوس ً أعضاء مجلس الشيوخ بوستوموس" أحد الممولين الرومان الذي اقترض منهم الملك المصري مبالغ كبيرة في هذه المناسبة. ولم تنته هذه الفترة التي غابها "بطليموس أوليتيس" عن مصر دون أن تشهد أمثلة أخرى من الرشوة التي أصبحت احد العناصر األساسية في عالقة مصر بروما في ذلك الوقت ،فالملك المصري الذي استطاع أن يحصل على التأييد السياسي األدبي من أعضاء مجلس الشيوخ ،ال يلبث أن يتصل بـ "جابينيوس" الحاكم الروماني لسوريا ،ويقدم ظا من المال كثمن لمساعدته عسكرًيا على استعادة عرشه. مبلغا باه ً له ً كليوباترا السابعة وأهدافها الطموحة (المرحلة الثالثة): عندما اعتلت "كليوباترا" العرش بعد وفاة والدها عام ( 51ق.م ).كانت مصر دولة ضعيفة ال حول لها وال قوة ،فقد فقدت جميع ممتلكاتها لروما ،وال يستقر لها ملك 56 إال باعتراف روما ،ووجود جيش روماني يسنده في اإلسكندرية ،في ضوء هذه الظروف واجهت "كليوباترا" بشخصها المجرد أقوى دولة في العالمً ، بدال من أن تنتظر قادة روما حتى يغزو مصر ،عولت هي على غزو قلوبهم وتحويلهم إلى أدوات طيعة في يديها، كثير من آفاق مصر واستطاعت عن هذا السبيل أن تمد نفوذها الملكي إلى آفاق أبعد ًا وتكاد أن تشمل اإلمبراطورية الرومانية ذاتها. كليوباترا وأخوها: عند وفاة "بطليموس الزمار" في عام ( 51ق.م ).كانت "كليوباترا" في سن السابعة عشرة وكان والدها قد أوصى بأن يؤول العرش لها وألكبر أخويها الذي أصبح أيضا أن تر