سيف العرش المفقود PDF
Document Details

Uploaded by MagicalSine953
Tags
Summary
سيف العرش المفقود هي رواية أدبية عربية، تبدأ أحداثها في أجواء مدينة أوراش، وتتناول موضوعات مثل الصراع والغموض. الرواية تمزج بين الإثارة والتشويق للقارئ العربي، وتأخذ القارئ في رحلة مليئة بالأحداث.
Full Transcript
سيف العرش المفقود **[الفـصـل الـأول]** ***\"فـرسـان أًوراش\"*** ***1*** وسط أجواء مدينة أوراش علا صوت حوافر الأحصنة التي تضرب الأرض مصدرة صوتا عاليا يعتلي صهواتها جنود الملك ملاحقين الملثمين الذين يتخذون سطوح المنازل طريقا معبدة لهم حاملين على ظهورهم أكياسا مكتنزة تجعل ركضهم عسيرا. سحب أحد الملث...
سيف العرش المفقود **[الفـصـل الـأول]** ***\"فـرسـان أًوراش\"*** ***1*** وسط أجواء مدينة أوراش علا صوت حوافر الأحصنة التي تضرب الأرض مصدرة صوتا عاليا يعتلي صهواتها جنود الملك ملاحقين الملثمين الذين يتخذون سطوح المنازل طريقا معبدة لهم حاملين على ظهورهم أكياسا مكتنزة تجعل ركضهم عسيرا. سحب أحد الملثمين سهما من كنانته ووضعه في جوف قوسه ساحبا الوتر وصوبه ناحية الجندي فاخترق قلبه مرديا إياه قتيلا، بعد هذا الفعل ازداد غضب الجنود فزادوا من ضرب سياطهم لخيلهم بينما كانت أكياس النقود تعبث بأجساد من على السطح. اختبأ الثلاثة خلف إحدى المداخن فأخرج ذو القناع الخشبي فأسه قائلا بصوت عميق: ركضنا بهذه الحمولة سيصعب المأمورية علينا، على أحدنا أن يهرب بها بينما يقوم الباقيان بإلهاء الجند. تطوع ذو القوس للمهمة فقاموا بوضع كل ما معهم بكيسه واخذوا أبردهم وحشو بها الأكياس ثم افترقوا. لعن قائد الجند حظه والتفت الى أتباعه ساخطا: كيف لكم أن تضيعوا مجموعة جرذان غبية أيها الحمقى؟ ليتفاجأ بقفز فريستيه أمامه وقال السياف: من الأحمق يا عقل الذبابة؟ لحقهم كمجنون فقد كانت إهانته كفيلة بجعله يغفل عن أنهم اثنان لا ثلاثة، استمر في ملاحقتهم فقال ذو القناع بغضب: لماذا ضياء هو من هرب بالمال وليس أنا؟ سحبه السياف من قلنسوته كي يدخلا دربا ضيقا وأجاب: أركض وكفاك ثرثرة ابتسم قائد الجند بنصر فهذا الزقاق مسدود إذن لن يستطيع الهاربان الفرار بينما قرر أحد الفرسان التباهي بشجاعته ولحقهم فتوقف في المنتصف مرهفا سمعه عله يلتقط أي صوت غافلا عن اللذين تسلقا الجدران ويقفان حرفيا فوق رأسه، بدأ أنف صاحب الفأس يرتعش منذرا بنوبة عطاس قريبة حاول كتمها لكن الجندي استطاع التقاط صوتها الخافت فلم يجد ذو الفأس حلا غير القفز عليه ونحره ثم رماه في الزاوية شاتما: كلب غبي هدأ السياف الحصان ثم ركبا صهوته فأعطى ذا الفأس الزمام بينما تولى السياف تأمين الحماية من الخلف. شعر الجنود بأن زميلهم قد تأخر فقرر آخر اللحاق به لكن سحقه الشابان بحصانهما والسياف يقطع رقبة كل من اقترب شبرا منهما \... تابعا الهرب بين الدروب الملتوية أما السياف فيصرخ بالمواطنين ليتنحوا عن الطريق فيتراجعون خوفا من التعرض للدهس وسرعان ما يعودون للتهليل مشجعين بجملة \"فرسان أوراش\" فتنهال عليهم سيوف وسياط الجنود لتخرسهم. فجأة توقف الحصان عن العدو فقال ذو الفأس مراقبا الجنود الذين قطعوا عنهم الطريق: ليث\...هل تملك خطة للهرب؟ بعد أن استشعر صمته الطويل أراد أن يصرخ به معاتبا ليقاطعه بهمس لم يسمعه غيرهما: راجس، اخرس تفاجأ راجس من رده لكنه صمت مجاريا ليث في أفعاله، وقف قائد الجند من خلفهم مبتسما بنصر وقال: أخيرًا وقعتم أيها الجرذان، يبدو ان النشاب قد خدعكم وهرب بالغنيمة رغم اللثام الذي كان يغطي وجهه بالكامل ولا يبرز إلا عينيه البيضاوين المائلتين للزرقة، إلا أن راجس استطاع استشعار أن ابتسامة خبيثة قد نمت على شفتي رفيقه. نزل هذا الأخير من على صهوة الحصان وتظاهر كأنه يسحب وتر قوس مصوبا سهمه على أحد الجنود فانفجر الجند ضاحكين واصفين إياه بالمجنون لكن بمجرد أن أطلق سهمه الوهمي اخترق سهم حقيقي قلب الجندي الذي كان يصوب نحوه، اتسعت ابتسامة ليث أكثر مصوبا على جندي آخر وكرر نفس الشيء معه فبدأ الجنود يناظرون السطوح حولهم بذعر وترقب متسائلين: من يكون هذا القناص الذي يرديهم واحدا تلو الأخر؟ غافلين عن ذي الخصلات البيضاء الذي يترقبهم من بين الأزقة، وضع سهما آخر في جوف قوسه وقال مصوبا ناحية الجندي الذي اختاره ليث: خذوا هذا يا كلاب شاتاي بدأ ليث يشعر بالملل فرفع قبضته في الهواء ليفهم راجس إشارته فأخرج بضع أكياس من جيبه ورماها عاليا لتخترقها سهام ضياء فتناثر غبار الجير محدثا سحابة كثيفة منحتهم غطاء ملائما للهروب بينما بدأت الخيول تتخبط بارتباك وحجارة الناس تنهال على الجنود من كل حدب وصوب اجتمع الثلاثة خلف إحدى المباني القديمة حيث يزين اسوارها قرميد برتقالي معقوف عند الزوايا، تسلقوا الجدار بحقائبهم التي أخفوا بها ثياب تنكرهم وساروا على رؤوس أصابعهم محاولين عدم إصدار أي صوت لكن كان للحشائش اليابسة رأي آخر، تلقى الثلاثة ضربة قوية على رؤوسهم تلاها صوت يعرفون معناه جيدا: أين كنتم يا صعاليك؟ ابتسم ضياء ببلاهة محاولا تلطيف الأجواء وقال: لا شيء، فقط تجولنا في السوق وأحضرنا بضع أغراض ضرب العجوز رأسه مرة أخرى بعكازته التي يحملها للزينة فقط ويستعملها أداة عقاب لا أكثر فهو لا يحتاجها رغم أن عمره قارب الخامسة والخمسين وقد صار رأسه أصلع أما لحيته التي تكاد تبلغ صرته قد اشتعلت شيبا إلا أن وديان الزمن وأخاديده لم تجد طريقا لوجهه وقد عجزت مصاعب الحياة عن ثني ظهره فلا يزال مستقيما يوازي شموخ الجبال، استدار موليا إياهم ظهره بينما لايزال ضياء يحك مكان الضربة بألم فضرب بعكازه الأرض وقال: عقابا لكم على فعلتكم ستقومون بخمسين دورة حول المدرسة وألف تمرين ضغط ومثلها بطن وقرفصاء ثم ستنظفون كامل المدرسة، مفهوم؟ تقدم ليث منه وقال: لكن، يا مدرب، لماذا تعاقبنا؟ كل ما فعلناه هو أننا استعدنا حقنا وحق مستضعفي المدينة، إلى متى ستستمر في ردعنا؟ نطق الأخيرة وقد صارت نبرة صوته تميل للصراخ لكن الامر ليس بيده فكلما تذكر حال سكان المدينة يشعر بقلبه ينقبض ويتمنى لو ينتزع كل قرش في خزينة ذاك الملك الفاسد: الناس يموتون جوعا بينما هو يكدس الأموال في خزنته بعد أن أثقل كاهل رعاياه بالضرائب والجزى، كل ما يريده هو غزو المزيد من الأراضي والسيطرة عليها دون الالتفات إلى بلاده وإصلاحها. رمقه نولان بنظرات قاسية مذكرا إياه بمكانته فطأطأ المعني راسه ثم تنهد العجوز معربا ضجره من نفس الحديث الذي يكررونه كلما عاد الثلاثة من عملية سطو فقال بنبرة هادئة: ليث، أنتم آخر طلابي وللأمانة أعتبركم كأبنائي وأكثر، آخر ما أود رؤيته هو أجسادكم المصلوبة معلقة في الساحة الكبرى والطير ينهش لحمكم بنهم او رؤوسكم معلقة في مدخل المدينة لم يستطع ليث أن يضيف كلمة أخرى تعارض رأيه فقال: حسنا، فلتعاقبنا إن شئت، لكن لا علاقة لضياء بكل هذا، أنا وراجس هما المسؤولان الوحيدان لذلك لا تعاقبه بأفعالنا جحظت خضراوا راجس كأنه يقول \"وما دخلي بهذه المعمعة\" ثم خلل أصابعه بخصلاته الشقراء معيدا إياها للخلف بانزعاج، صمت نولان قليلا بينما يفتل لحيته بتفكير ثم أجاب طلب ليث قائلا: حسنا، لكن لن ألغي عقوبة التنظيف انحنى ليث باحترام بينما تجهمت ملامح راجس بانزعاج فناظره نولان قائلا بهدوء مرعب: هل تمانع قراري يا أشقر؟ تجمدت الدماء في عروق المعني رعبا فقال بابتسامة مرتبكة: أبدا، معلمي، فأقوالك حكم وتعاقبنا من أجل مصلحتنا فقط ابتسم نولان برضا واضعا يديه خلف ظهره وغادر ناحية جناحه فرمقهما راجس بنظرات قاتلة وصفق قائلا بغضب: شكرا لتحميلنا أتعابا نحن في غنى عنها ـ لكنه لا يزال صغيرا أجابه ليث مدافعا فنهره راجس وقد برزت عروق رقبته غضبا: طفل؟ عمره واحد وعشرون سنة وتخبرني أنه طفل، ليث أرجوك، كفاك تسويغا غبيا لأفعالك أراد ضياء الدخول في النقاش لمنع شجارهما فرفع راجس سبابته في وجهه مهددا: الأفضل لك أن تبقي لسانك داخل فمك وإلا قطعته، وحول سبابته ناحية ليث مكملا بوعيد: أما أنت، فإن كان هذا الوغد ضمن العملية القادمة فإياك حتى أن تحلم برؤية وجهي فيها \*\*\*\*\* حتى بعد اقتراب النهار من الانتهاء لم يتمكنا من إنهاء العقاب فكلما أوشكا على ذلك يطالبهم نولان بشيء آخر وطيلة تلك المدة لم يبعد الأشقر عينيه عن ضياء الذي كان يكنس الساحة الحجرية، انتهي من تمارين الضغط ولف الشاش حول مفاصل يديه ثم شرع في تكييل اللكمات دون هوادة مفرغا غضبه في كيس الرمل، ابتلع ضياء ريقه برعب مرخيا ياقة سترته بينما يجفل جسده كلما سمع صوت اللكمات العالي، يكاد يجزم أنه لو لم يكن تحت حماية المعلم لكان الآن مكان كيس الرمل المسكين. كتم ليث ضحكته بصعوبة فمنذ أن انضم ضياء إلى النادي قبل أحد عشرة سنة وهما على هذا الحال: يتورط ثلاثتهم في المشاكل، هو يتلقى عقابا مخففا وهما الأعمال الشاقة وما يثير جنون الأشقر هو أنه كلما سأل عن سبب هذا التمييز يتم قصف جبهته و يعاقب لمخالفته أوامر معلمه، سرعان ما أنهى ضياء التنظيف و همس في أذن ليث بما جعله يتجهم لكن نظراته البريئة والمترجية جعلته يهز رأسه موافقا بقلة حيلة فدخل الأصغر راكضا بحماس، سدد آخر لكمة للكيس وحمل منشفته متجها لداخل المنزل ثم انعطف يمينا حيث تقع غرفته في بداية الممر، حمل بعض الغيارات و ما قد يحتاج ثم عبر الباب الخلفي الموجود في آخر الرواق للوصول إلى الحمام الذي جهز حطبه مسبقا. كان الحمام منقسما الى غرفتين: غرفة التسخين وهي غرفة صغيرة تحتوي موقدا حجريا وقدرا نحاسية تحتل نصف المساحة وفتحة تهوية في أعلى الجدار تطل على الغرفة الرئيسة وهي غرفة الاستحمام مما يساعد بخار الماء الموجود في القدر على الانتشار بطريقة تؤمن تدفئة جيدة إضافة إلى الأنبوب الذي يخترق الجدار منتهيا بانبعاج يشبه الصنبور. كان الحمام الدافئ بعد العقاب الذي تلقاه من نولان بمثابة النعيم، لكن نعيمه قد سلب بسبب ليث الذي اعترض طريقه مانعا إياه من الدخول مما جعله يرفع حاجبه باستغراب من هذا التصرف الذي لا معنى له بنظره، قاطع ليث شروده قائلا: لا تستطيع الدخول عقد ذراعيه أمام صدره منتظرا تبريرا فأكمل ليث: لأن ضياء بالداخل عبث بلسانه في باطن خده علامة على انزعاجه فقد بدا الأمر وكأن العالم أجمع اتفق على إغضابه اليوم، لكنه أعقل من أن يغضب بسبب \"طفل\". تخطاه ناحية الباب مجيبا: أيا يكن، أريد الاستحمام ألا تصلك رائحتي الكريهة، كما أننا رجلان، ألست محقا؟ ضيق عينيه بشك تزامنا مع آخر جملة فلوح المعني بيده نافيا وعلل: لا أعنى هذا، بل ما أعنيه هو ما الذي يضمن لي أنك لن تقتله بعدما حصل صباحا، أنت أكبر وأضخم وأكثر خبرة منه، كل الظروف ستكون مواتية لتقترف جريمتك بكل أريحية كان ليث يدعوا في نفسه ألا ينفجر فيه فمسْح راجس المتكرر على وجهه هو علامة على أن غضبه قد بلغ ذروته، قبض الاشقر يده بقوة لدرجة أن الدم قد انحسر عن يده التي ابيضت وصارت عروقه أكثر بروزا فقال بصوت جعله هادئا ما أمكن: ليث \... أمامك ثانيتان كي تتنحى عن طريقي وإلا فإنك سترقد على فراشك لمدة طويلة فعل ليث عكس ذلك حيث جعل من جسده سدا بين راجس وباب الحمام، هنا فقد الأكبر صوابه وسدد لكمة قوية تزامنا مع خروج ضياء الذي كاد أن ينكسر فكه لولا مناورته السريعة كما انه كان يبدو في حال فوضوية: شعره أشعث ومبلل يقطر على قميصه الذي يبدو أنه قد زرره على عجل فأغلب الأزرار في غير مكانها، حمل راجس حاجياته ودلف الحمام صافعا الباب خلفه فرفع ليث قبضته بنية تأديب الأصغر الذي أغمض عينيه بخوف لكنه تركها معلقة في الهواء وقال مهددا: كادت عظامي أن تتكسر بسببك، هذه آخر مرة، مفهوم؟ هز ضياء رأسه موافقا لكنه أماله متأملا عيني ليث وقال بانزعاج: متى آخر مرة ذهبت إلى بنيامين لتلقي الترياق؟ انقلبت الأدوار في رمشة عين حيث أن ليث صار المذنب وضياء المعاتب، أشاح المعني بنظره وحك رقبته مضيفا بصوت خافت: أسبوع ضيق ضياء عينيه بشك فأضاف: أو ربما أسبوعان ضيق ضياء عينيه أكثر فصرخ الأكبر بنفاذ صبر: شهر ونصف هل ارتحت الا\... ـ لا نهره ضياء بغضب وأضاف: لست مرتاحا ولن ارتاح، أنظر إلى عينيك كيف صارتا، من يراك من بعيد سيجزم أنك كفيف وستصبح كذلك لو لم تأخذ الدواء، لذلك أمامك حلان: أولهما أن تكون فتى مطيعا وتذهب إلى بنيامين لأخذ دوائك، والثاني أن أفقأ عينيك وبهذا ترتاح من صراخي ومن عبء الذهاب للرجل الذي من المفترض أن تزوره كل صباح، الخيار لك عقد ضياء ذراعيه أمام صدره وهز كتفيه بلا مبالاة وكأنه يقول \"لا أهتم أيا كان قرارك\" وطرق حذاءه بانتظام دلالة على انتظاره فتنهد ليث بقلة حيلة لان ضياء محق، كالعادة، إضافة إلى أنه عنيد ولن يرتاح إلا إذا نفذ ما يجول في رأسه، حنى رأسه باستسلام يعبث بالتراب بقدميه وأجاب: حسنا سأذهب، بعد أن أستحم تحولت ابتسامة ضياء الواسعة إلى تجهم ينذر بعاصفة شتم لكنه تمالك نفسه قائلا: ستذهب إليه وستستحم هناك ولن تعود إلى المدرسة إلا وقد عادت عيناك لطبيعتها، مفهوم؟ هز ليث رأسه موافقا وقال بابتسامة أظهرها مجبرا: هل أستطيع أخذ بردي فالجو بارد كما ترى؟ لم ينتظر إجابة من ضياء ونفذ ما قاله ثم اتجه ناحية الباب الرئيسي ذي الشكل المقوس المزين بقرميد برتقالي تخلله سواد الغبار مشكلا هرما على قمته وينحني القرميد إلى أن يصير معقوفا عند الزوايا، لطالما سببت له عيناه المتاعب مع البقية فبمجرد أن بلغ الثامنة عشرة من عمره بدأت عيناه تبيضان بشكل مقلق رغم أن نظره لم يتضرر وهذا هو ما جعل الامر في غاية الغرابة، لذلك لجأ لبنيامين: عالم تم نبذه من بلاده \"فيستول\" بسبب تجاربه واكتشافاته التي جمعها من رحلته حول العالم والتي تعارض ثقافتهم ومعتقداتهم، كما أنه كان مسؤولا عن تعليم طلاب نولان بشكل سري مقابل ثمن رمزي وكان ليث هو التلميذ المشاغب الذي جننه بتصرفاته الطائشة وغير المتوقعة حاول ما أمكنه تفادي الشوارع الشرقية وهي شوارع ذات سمعة سيئة فآخر ما يريده هو أن تعلق به رائحة إحدى العاهرات أو أن تتخلل مسامعه ضحكاتهن الماجنة المقززة فقد صار بيع الشرف مهنة شائعة في كل ارجاء البلاد وإيجاد فتاة عفيفة صار عملة نادرة أو معجزة بشكل أدق وهذا ما أكسب أوراش سمعة أسوأ من التي كانت عليه كونها معقلهن الاساسي وحتى الأمن لا يتدخل لأن زبائنهن الأوائل هم الجند وما شاكلهم من تلك الطبقة، مشاعره متضاربة بشأنهن: يشفق عليهن فهو يدري كل الدراية أنهن سلكن هذا الدرب النجس بسبب الظروف و ما يذره هذا المجال من دخل قد يؤمن لهن حياة شبه مستقرة إضافة إلى الحماية، ومع ذلك فهو يكرههن أو إن صح القول يلومهن لبيعهن شرفهن مقابل قروش معدودة، تاه بين أفكاره إلى أن شعر باصطدام جسد صغير به فحنى نظره لتلتقي عيناه القلقتان بعينين تتقدان حقدا وغضبا لا يتناسب مع طفل لم يتجاوز عقده العاشر، مد ليث يده بنية المساعدة لكن الطفل تجاهله وتابع ركضه محتضنا ما كان يخفيه بين ثنايا ثيابه المهترئة التي بالكاد تستر جسده الهزيل، أكمل سيره غير مكترث ليجد نفسه بين تجار الساحة الكبرى وهي ساحة كبيرة دائرية تتوسط المدينة ومحاطة بدعامات خرسانية تتوسطها منصة حجرية كما انها تعتبر محجا لكل سكان أوراش باعتبارها سوقا مركزيا ومحكمة حيث تقام أغلب المداولات وأحكام الإعدام على منصتها، لاحظ حشدا مجتمعا عند المنصة فتقدم منهم حابسا أنفاسه كي لا يشم رائحة الخضر المتعفنة والجيف التي لا يجد الناس مناصا من شرائها لسد رمقهم، وصل أخيرا بعد تدافع وعراك ليجد أن سبب هذا هو مجنون بشعر ولحية مغبرين أشعثين وملابس ممزقة وتقر كامل المدينة بذهاب عقله، لكن جنونه هذه المرة قد زاد فهو يقف في مواجهة جندي يمتطي حصانه، حمل المجنون كومة حجارة بيده المجعدة وبدأ يرميها على الجندي صارخا بغضب: أيها الساقطون، تتبعون قاتل سيدكم، لستم إلا كلابا تتبع من يقدم لها أكبر قطعة لحم، لا أخلاق لكم ولا مبادئ فرد الجندي سوطه كتهديد لكن المجنون لم يتزعزع وتابع سلسلة شتائمه فرفع الفارس سوطه وهوى بها ناحية العجوز لكن الذي تلقى الضربة هو ليث الذي تحفز جسده بمجرد أن أظهر الجندي سلاحه، أنّ بألم إثر تلقيه لجلدة ثانية وثالثة بينما ملأت ضحكة الفارس المقززة المكان لكنه شعر بالملل فجمع أوساخ فمه وبصقها عليهم شاتما: ثعابين قذرة ولم يكتف بذلك بل حاول دهسهم لولا رد فعل ليث السريع حيث سحب نفسه والعجوز بعيدا عن مسار الحصان أما المتفرجون فقد انفضوا من حولهم وكأنه مجرد عرض مسرحي لاحد الفرق الجوالة دون أن يزعج أحدهم نفسه بالاطمئنان عليهما، ابتعد ليث عن المجنون بعد أن تأكد من ذهاب الجندي وتفقده قائلا بعتاب: كونك مجنونا لا يعني أن تلقي بنفسك للموت لكنه لمح دموعا في عيني مخاطبه فتفقد جروح يديه قائلا بهدوء: عذرا، لكني أمر بيوم سيء رفع المجنون يده المرتعشة ووضعها على خد ليث قائلا بصوت متذبذب: سيدي، علمت ذلك، أخبرتهم أنك لا تزال حيا لكنهم لم يصدقوني، أخبرتهم أن ذاك الثعبان الغبي لن يقوى على قتلك، أنت حاتم، ملكنا كان ينطق كلماته بسعادة غامرة كما لو أنه عثر على كنز ظنه مفقودا أما ليث فلم يفهم شيئا فطالب بتوضيح ليجيبه المجذوب: أنسيتني يا سيدي؟ أنا أحد حراسك ثم بدأ ينفض الغبار عن ملابسه وعدل شعره قائلا: والآن هل عرفتني؟ بدأ المجذوب يصفع نفسه ويعض لسانه فجأة فأمسك ليث يديه قائلا: ما بك يا هذا؟ \_ يجب ان اعاقَب لأنني لم أحدثك بطريقة ملائمة ولمستك دون إذنك مع أنك سيدي \_لماذا لا تنفك تنعتني بـ \"سيدي\"، أنا لست سيدا لأحد \_لكنك سيدي ولا يجدر بي أن أناديك بغيرها صفة ضحك ليث وقال: لا بد أنك شبهتني بشخص آخر، اسمي ليث وليس حاتم أمسكه المجنون من تلابيب قميصه معرقلا سيره وقال: بلى أنت هو، أستطيع تمييزك بين ألف من توائمك تنهد ليث محاولا ضبط نفسه وقال: إذن يا أيها الحارس، كي أوضح الأمور: أنا لست سيدك واسمي ليس حاتم وفي حالة تناسيك للأمر فقد تعرضت للجلد منذ لحظات وعلي أن أعالج جراحي، بالمختصر لا أملك وقتا لمسايرة جنونك لذا وداعا نهض ونفض ملابسه مغادرا لكن تلك القشعريرة لم تغادر جسده وكلمة \"ثعابين\" لا تنفك تتردد في ذهنه، لعن في نفسه رهاب الزواحف الذي يعانيه والذي يعتبره غبيا بالنسبة لشاب في عمره، حك ذراعه بتقزز عند تذكره لجلودها المقززة وطريقة زحفها التي تصيبه بالغثيان ثم حرك رأسه محاولا إبعاد تلك الأفكار عن ذهنه، دخل زقاقا ضيقا بجدران متقاربة وأخذ نفسا عميقا ثم قفز حاشرا نفسه بينها، انكمشت ملامحه بألم إثر احتكاك ظهره المصلوب بسطح الجدار الخشن لكنه استجمع قواه واستمر في التسلق إلى أن بلغ القمة وقد بات يتصبب عرقا بينما يكيل الشتائم لضياء ويتوعده بعقاب وحشي سيخلده التاريخ، قفز بضع أسطح بصعوبة قاصدا نافذة مقوسة لبرج وطرقها بنمط معين: طرقة، ثلاث، اثنتان و ثلاث اخريات انتظر قليلا ليصله الجواب متمثلا في طرقتين متباعدتين فأجاب بمثلها، انفتح الباب ليظهر من خلفه رجل هزيل بقامة قصيرة وشعر طويل أشعث بينما قنته صلعاء ويرتدي نظارة أحادية العدسة في عينه اليمنى، قفز إلى الداخل فأغلق الكهل النافذة بعد أن تلفت يمينا ويسارا للتأكد من خلو المكان ونزلا الدرج المغطى بالأتربة دون أن ينطقا بحرف، بدأ نور الشموع الخافت المتراقص يلوح في نهاية الدرج لتظهر قاعة واسعة تحتوي عدة رفوف وطاولات صفت عليها كتب ومجلدات وأدوات مخبرية غريبة، وضع الكهل فانوسه على إحدى الطاولات وعاد لإتمام تجاربه قائلا بصوت مبحوح: ما الذي أحضرك إلى هنا؟ نفض ليث الغبار عن الاريكة ناويا الجلوس لكنه تراجع واتجه ناحية إحدى الغرف مجيبا: اشتقت لرؤية وجهك العجوز، كما أن حادثا قد حصل في طريقي إلى هنا قال جملته مشيرا لجروح ظهره ثم أخذ بعض الملابس واتجه ناحية الحمام حيث ساعدته المياه الدافئة في تنظيف جروحه وإعادة ترتيب أفكاره لكن لسوء حظه فقد نفدت المياه الساخنة قبل انتهاءه، عاد إلى القاعة ليجد الكهل قد جهز ما يحتاج لتضميد وتعقيم جرحه فجلس مقابله وقال: إلى متى ستظل مختفيا في هذه المكتبة المهجورة منكبا على تجاربك التي لم تنجح يوما؟ سئمت التسلق والدخول من النافذة كاللصوص تنهد بنيامين مركزا على عمله مجيبا بنبرة ساخرة: سأخرج من المكتبة عندما تتغلب على رهاب الزواحف والخوف من ذي الصوت الناعم، كما أنى لم أهرب من نعيم بلادي كي أسرح وأمرح في جحيم الاغتراب فعلي أن أثبت أنهم مخطئون، وكفاك حديثا كما لو أنك لست لصا ابتسم ليث متخيلا تعبير ضياء عند سماع لقب ذي \"الصوت الناعم\" لكن الألم المنبعث من ظهره أيقظه مرغما. انتهى بنيامين من عمله فارتدى ليث قميصه ثم رفع رأسه للأعلى سامحا له بتقطير سائل أزرق في عينيه فرمش عدة مرات كي يوزع المحلول على كامل مقلته فبدأ البياض ينحصر شيئا فشيئا عنهما ليظهر بؤبؤهما الاحور والذي كان متناسبا مع بشرته المسمرة المزينة بنمش خفيف، حمل كتابا من الرف وفتحه على صفحة عشوائية جال بعينه بين كلماتها لكن سرعان ما استلقى على بطنه هاربا إلى عالم الاحلام **2** في مكان آخر بعيد عن المدينة، في أعماق الغابة الشرقية حيث يقع جرف يشرف على البحر، قام قصر مهيب بأبراج عالية ترفرف على قممها أعلام سوداء تحمل رمز سيف فضي وقد التف حوله ذيل تنين أزرق سماوي جناحاه مبسوطان في الهواء وتنعكس على دعاماتها أشعة شمس الغروب البرتقالية اصطف الجنود أمام قاعة العرش منتظرين عقابهم فقد كانت هذه آخر فرصة لهم لإمساك أولئك المنشقين لكنهم فشلو في ذلك، فزع الجنود فور أن انفتح الباب من تلقاء نفسه وجاءهم صوت بعيد يطالب بدخولهم فدلفوا الواحد تلو الآخر وقد سقطت قلوبهم عند أقدامهم رعبا لان عواقب غضب شاتاي ليست حميدة البتة مثلوا بين يديه مطرقين رؤوسهم بينما تخترقهم نظراته المظلمة، رجل بجثة ضخمة يقبع في جوف الظلام، عيناه مظلمتان كسواد الليل وكأن شر العالم أجمع يسكنهما، محاطتان بهالات سوداء تبرز مدى شحوب بشرته مما يجعل الوصف الصحيح لشكله هو جثة متحركة ـ سمعت انكم واجهتم جرذان اوراش، إذن أين هي رؤوس؟ تردد صوته العميق المبحوح بين جدران قاعة العرش التي لم تدخلها خيوط الشمس الذهبية منذ قرابة العشرين سنة مما جعلها تعبق برائحة العفن والرطوبة فارتجف كيان من كادوا يبللون ملابسهم فزعا، وفي رمشة عين كان يقف أمام قائدهم الذي تراجع فزعا غير مستوعب لما حصل قبل لحظة لكنه تمالك نفسه وقال متلعثما: سيدي، لم نستطع احضارهم لأنهم كانوا \... جال بنظره باحثا عن كذبة مناسبة وأضاف مندفعا: لأنهم كانوا كثرا، حوالي عشرين رجلا وأغلبهم سفاحون ومرتزقة وأسلحتهم أكثر قوة وتطورا من خاصتنا بينما نحن مجرد فرقة استطلاع وأغلبنا مستجدون حتى أننا فقدنا بعض الرفاق سرعان ما انضم له بقية الجنود مؤيدين أكاذيبه ومنهم من أضاف بهاراته الخاصة بحيث حولها لقصة مشوقة باستثناء فارس واحد، ظل صامتا منذ دخولهم حتى أنه لم يشارك البقية في تلفيق قصصهم وكل ما كان يفعله هو فتح فمه للكلام وسرعان ما يغلقه بتردد، سار شاتاي ناحيته بخطوات متثاقلة ودنى منه قائلا: هل هذا ما حصل فعلا؟ انعقد لسان الشاب رعبا فقاطعهما القائد مبررا صمته بالصدمة لكن نظرات شاتاي الباردة أخرسته ـ كم شخصا كانوا؟ أضاف شاتاي مميلا رأسه فبلع الفارس ريقه مجيبا بصوت مرتعش: ثلاثة كالعادة، السياف والنشاب وذو الفأس ابتسم ذو الحذقتين السوداوين وربت على كتف الشاب بلطف قائلا: جواب صحيح، سعيد أنه مازال هناك صادقون حولي عاد بنظره إلى بقية الفرسان بملامح لا توحي بما يجول في خلده متقدما نحوهم بخطواته المتثاقلة تاركا الشاب في حيرة: إن كان يعرف الإجابة مسبقا لماذا سمح لهم بالكذب؟ والسؤال الأهم هو: كيف عرف الحقيقة وهو لا يغادر قصره إلا نادرا؟ أتراهم جواسيسه المنتشرون في كل مكان؟ تقدم منهم بخطا بطيئة وابتسامة جعلته أشبه بشبح الموت الذي يستمتع برؤية رعشة الخوف في أجساد ضحاياه والعجز في أعينهم، للأسف نسوا أنه هناك ما هو أسوء من عاقبة إغضاب شاتاي، وهي عقوبة الكذب عليه، قلوبهم تطرق رعبا مترقبين حركته القادمة لكن انتظارهم لم يدم طويلا فسرعان ما بدأوا يسقطون واحدا تلو الآخر دون حراك وقد اسودت عيونهم بشكل كامل، مرت الثواني ثقيلة على قائدهم وهو يراقب نظرات شاتاي المظلمة الذي قال باستمتاع: بووو\... استيقظ القائد من شروده وركض ناحية الباب محاولا النجاة لكن وفي منتصف الطريق شعر بثقل يرتمي على جسده فالتفت لتتسع عيناه رعبا فقد كانت جثة فارس هي من تتشبث به أما البقية فيركضون ناحيته بخطوات ملتوية وقفزوا على جسده مطيحين به أرضا ثم خرج من أفواههم دخان أسود أحرق الجنود وكذا القائد فارتعشت فرائص الشاب رعبا من هذا المنظر البشع: رماد بشري وهياكل عظمية متفحمة ومتلاصقة ينبعث منها دخان كريه إضافة إلى صراخ القائد الذي لازال صداه يتردد في القاعة، التفت شاتاي نحوه بعد انتهاءه من تأمل \"اللوحة الفنية\" التي صنعها ورفع يده ببطء ناحية جبين الشاب، مسح على غرته بلطف ثم قال: تبدو صغيرا جدا، كم عمرك؟ بلع الشاب ريقه مغمضا عينيه بخوف وأجاب بصوت مرتجف: سـ..سبع وعشرون هز رأسه بفهم ثم وضع سبابته على صدغ الشاب ومرره بشكل طولي ناحية ذقنه قائلا: لحسن حظك أني احتاج الشباب في صفوف جيشي، خاصة الصادقين منهم شعر الشاب بشيء دافئ يسري على خده من المكان الذي كان يضع سبابته عليه ولم يلبث أن ظهر جرح من العدم متشكلا بنفس مسار سبابة شاتاي، جثا الشاب ممسكا جرحه وقد غطت الدماء درعه الفضي بينما عاد الملك إلى كرسيه وقال: اعتبرها عقابا لتأخرك في الإجابة عن سؤالي وستكون ندبتها علامة تذكرك بعدم التواني في ذلك مهما كان الظرف، مفهوم؟ أومأ الشاب موافقا لكن ألمه ازداد فتدارك خطأه مجيبا: أمرك سيدي ابتسم شاتاي برضى مشيرا له بالخروج فتحامل الشاب على نفسه وزحف ناحية الباب ممسكا جرحه واستند بثقله عليه فانفتح ثم اتكأ على الجدار وسار بقوى خائرة لكنه سرعان ما تمدد في منتصف الممر مغشيا عليه **3** تحسس مساره بينما لا يرى غير السواد، اشتعل أحد المشاعل المثبتة إلى الجدار باعثا بنوره الذي أبان عن ممر طويل اشتعلت المشاعل على طوله من كلا الجانبين، تخلل مسامعه فحيح أفعى فجرى دون الالتفات، ركض وركض إلى أن بلغ نهاية الممر ليجد قصرا مشتعلا ومحاطا بدخان غريب يتدرج لونه من الأسود للأخضر وأكواما من الهياكل العظمية المتفحمة وبشر غريبين بأجساد دامية شبه متحللة ومشية مترنحة ملتوية وافواه مفتوحة مصدرين أصواتا غير آدمية جعلتهم أقرب إلى الجثث، والأغرب عيونهم السوداء التي لا بياض بها. سرعان ما انتبهوا لوجوده لينطلقوا راكضين نحوه كوحوش ترغب بنهش فريستها فحاول الهرب لكن جسده قد شل من الرعب بسبب الأفعى التي التفت حول ساقيه، ومن العدم ظهرت امرأة بشعر أسود غجري يغطي ظهرها وثوب ابيض يضم جسدها، بسطت ذراعيها في الهواء كالملاك الحارس جاعلة من نفسها حاجزا بينه وبين الوحوش لكن ما لبثت أن اخترقت يد متوحشة بمخالب صفراء بارزة صدرها منتزعة قلبها بوحشي، سقطت المرأة أمامه دون حراك بينما لطخ دمها القاني فستانها الأبيض المطرز بخيوط ذهبية، وبمجرد أن رفع نظره عن جثة المرأة التقت عيناه بعيني مخلوق غريب: جذعه العلوي كان بشريا أما جزؤه السفلي فذيل ثعبان وتغطي الحراشف الخضراء ذراعيه حتى المرافق و شعره الأسود يغطي كتفيه وجبينه معطيا هالة مظلمة شريرة لعينيه الخضراوين الشبيهتين بعيون الزواحف، وعلى حين غرة هجم عليه الكيان منتزعا قلبه في تلك اللحظة استيقظ ليث من هذا الكابوس الذي ما فتئ يراوده منذ أن بلغ الخامسة، لدرجة أنه حفظه عن ظهر قلب، لكن مشاعر الخوف والرهبة والجزع التي تراوده في كل مرة يراه تكون أقوى من سابقتها. جسده يتصبب عرقا وصدره يزداد ضيقا بسبب نومه على بطنه، وقف بصعوبة فشعر بشيء يسقط عند قدميه فأنزل بصره ليجدها بطانية، إذن فقد غطاه ذاك العجوز الذي ما ينفك يمثل أنه لا يهتم لأمره. ارتسمت ابتسامة دافئة على محياه فجال ببصره باحثا عنه ليجده نائما بوضعية غير مريحة ساندا رأسه على الطاولة فحمل البطانية وعدل وضعيته إلى أخرى مريحة ثم غطاه فبدأ هذا الأخير يهذي بأسماء التركيبات والمحاليل، فرت ضحكة قصيرة من ثغر ليث تحولت سريعا إلى ابتسامة حزينة بمجرد أن أبصر ساقه اليمنى الخشبية المبتورة من الركبة والتي فقدها بسبب فخ دببة أثناء محاولته الهرب من فيستول كثيرا ما ساوره الفضول المخلوط بالاستغراب بشأن أولئك المتشددين المتشبثين بمعتقداتهم كما لو أنها مقدسات لا عيب بها رغم أنها أفكار مغلوطة، ويعتبرون كل ما دونها أكاذيب باطلة، بل إلى أي حد قد تصل وحشيتهم عند خروج أحدهم عن القطيع وتبنيه تلك \"الأكاذيب الباطلة\" مثبتا صحتها؟ الجواب هو أنه يصير في نظرهم فاسقا زنديقا وجب رجمه حتى الموت بدلا من نهج سياسة الحوار المتحضر معه حاول ليث التحرك بهدوء فالواضح أن بنيامين لم ينم ليال عدة محاولا الوصول لنتائج صحيحة وتفسيرات معقولة لتجاربه والدليل على ذلك البقع السوداء التي أحاطت عينيه المتعبة حمل شمعة كانت موضوعة على المنضدة المقابلة للأريكة مستغلا نور شعلتها المتراقصة لصعود الدرج بسلام ثم وضعها في الزاوية وفتح باب البرج قافزا ناحية أقرب سطح، بدأ يسير بأريحية على تلك الأرضية المبلطة كما لو أنه دخل عالمه الخاص مستمتعا بالنسيم العليل الذي يداعب بشرته ويداعب شعره الحالك بجموح معطيا إياه شعورا منعشا لا يوصف، رفع رأسه إلى ذاك البساط الأسود المزين بلآلئ نجمية مشتعلة غير قابلة للإحصاء يتوسطه نصف قرص مشع يبث نوره في المكان، منذ أن علمه بنيامين بأن بعضا من تلك الأجرام السماوية تدعى كواكب علقت كلمة واحدة في ذهنه، \"كواكب\"، كلمة كان وقعها على مسامعه مريحا بشكل يبعث على الاستغراب، كلمة شعر معها بيد حانية تمسح على شعره الأسود ورائحة البرتقال المنعشة تغزو أنفه وبحضن دافئ يحتويه وشفاه رقيقة تقبل خده وتهمس في أذنه بصوت ناعم حنون: لا تقلق، إنه مجرد كابوس فتح عينيه بعد أن ارتوى من تلك الخيالات الوردية متأملا منازل أوراش المتهالكة ونوافذها المقوسة حيث تنبعث منها أنوار الشموع البرتقالية المتراقصة مثل أرواح الناس التائهة التي تفقد رغبتها في الحياة فتذبل شعلتها يوما بعد آخر: أطفال سرقت براءتهم وفتيات سرق شرفهن، شبان استغل شبابهم بشكل خاطئ وشيوخ تم الاستغناء عن حكمهم ومشورتهم، هذا ما يحصل عندما ينحرف المرء عن المسار الذي سطر له من قبل القدر استلقى متوسدا ساعديه منغمسا في بحر أفكاره لدرجة أنه لم يشعر بنزيف ظهره، كيف سينجح في عملية السطو القادمة دون ذاك الأشقر العنيد؟ ففرسان أوراش متوازنون بأفرادهم حيث أن ليث هو العقل المدبر للمخارج وراجس عضلات الفريق وصانع خططه ورباطة جأشه، فكلامه يعتبر أفضل خطاب تشجيعي، وإن كان لا يخلو من السب، وأخيرا ضياء الذي يعتبر سلاح الفريق وقناصه، ثلاثة دعامات تبقي القاعدة متوازنة فإن غاب أحدها انهار الفريق، اعتدل في جلسته شادا شعره بغضب ثم أمسك جبينه هامسا: كيف سأقنع ذاك العنيد وأصالحه؟ حتى خاله أكثر لينا منه، سحقا، رأسه أصلب من الصخر نفخ محتوى رئتيه بسخط فقاطعه صوت نباح الكلاب الضالة فصرخ بغضب: اخرسي أيتها الجرباء، نباحك المنفر هو ما كان ينقصني أخذ حجرا كان بجانبه وألقاه ناحية الزقاق لكن ما أثار استغرابه هو أن الكلاب لم تنصرف حتى بعد مرور مدة لا باس بها، ولوهلة ظن أنه قد سمع صوتا خافتا يأمرها بالابتعاد، أطل براسه فلمح جسدا ضئيلا يحمل عصا خشبية يلوح بها بشكل عشوائي محاولا إبعاد الكلاب التي تنبح وتتحرك إلى الأمام والخلف مستعدة للهجوم، ضيق ليث عينيه محاولا تبين هوية الشخص لكن انتظاره لم يدم طويلا فسرعان ما سقطت القلنسوة ليكتشف أنها فتاة، لم ينتظر ثانية أخرى خاصة أنها بدأت تترنح وبالكاد تقف على قدميها فقفز إلى الشرفة المقابلة ومنها إلى الأرض راشقا تلك الجرباء القذرة بكل حجر اعترض طريقه ولحسن حظها أنه أمسكها قبل سقوطها، كانت تتصبب عرقا و شعرها الأسود ملتصق بوجهها فأبعده بلطف ليجدها محمومة، حملها بين ذراعيه وتلفت يمينا ويسارا متحققا من خلو المكان فقد قرر استخدام بوابة المكتبة السرية التي يستخدمها بنيامين في الخروج خلسة لجلب احتياجاته عند غياب الشباب عنه لفترة، دخل وأنامها على الأريكة ثم خلع عنها بردها لتبقى بفستانها المهترئ الملطخ بالدماء ثم أحضر وعاء فخاريا به ماء وبعض الخرق التي بللها ومسح بها وجهها لتظهر الندوب جلية على الجانب الايسر لوجهها: الأولى تقسم حاجبها نصفين والثانية تحتل زاوية شفاهها، ثم مسح رقبتها لتبرزت قلادة فضية من أسفل ملابسها فسحبها وقد اندفعت آلاف الذكريات لتحتل ذهنه الذي كان يدرس احتمالية وقوع ما يفكر به، قلب القلادة وقرأ الحروف المنقوشة عليها ثم ناظر النائمة ليقول بصوت طغت عليه الصدمة: أ..أختي \*\*\*\*\* انتهى من آخر مجموعة تمارين ضغط واقفا على يديه وجلس إلى المائدة حيث كان نولان يرتشف الشاي الأخضر بانتشاء مستمتعا برائحته الزكية، أخذ راجس منشفته واقتعد الكرسي المقابل لمعلمه قائلا: أظن أن أمي طلبت منك الاعتناء بي لا تعذيبي؟ قلب نولان عينيه بملل وأجاب: كفاك تذمرا، ماريا نفسها كانت تقوم بضعف العدد كإحماء أما دامر فيفعلها واقفا على سبابته بمجرد أن سمع الاسمين كسا ملامحه الحزن وقال بصوت خافت: أفتقدهما كثيرا، ندمي الوحيد أنى لم أرحل معهما أو أجمع رمادهما على الأقل هز نولان رأسه موافقا وسال: أما زلت تلومني؟ أعني أما زلت تحملني مسؤولية ما حدث؟ أشار راجس بالنفي مجيبا: تستطيع أن تقول أني تقبلت الأمر، كما أنها كانت وصيتهما الأخيرة وهما يؤديان واجبهما كفارسين للملك ووجب عليك تنفيذها استجمع نولان انفاسه وقال بضعف واضح في نبرته: إذن لماذا لم تنادني بـ خالي حتى الآن؟ أشاح راجس بنظره عن العجوز فقد كان الأمر أشبه بفتح جرح قديم لكليهما فقد فقَد هذا الأخير كل ما اهتم لأمره يوما: أبوه، أمه وشقيقه الذي كان في طور النمو بين أحشائها، كلهم قتلوا في حادثة اغتيال الملك السابق وكل من تبقى هو خاله الذي كلف بمهمة رعايته كآخر وصية. أخذ نفسا عميقا محاولا تنظيم أفكاره وكذا كلماته لان آخر ما يريده هو كسر قلب عجوز فقطع صمتا دام لدقائق بقوله: هل تقبلت موتهما؟ أجل، وهل تقبلت هربك او بتعبير اصح انسحابك من ساحة المعركة لأجل انقاذي؟ أجل، لكن جزءا مني ما زال غير مستعد لهذه الكلمة ولساني ما زال مترددا كي ينعتك بهذه الصفة، لا تعتبره كرها فحاشا أن أضمره لك مهما حدث، لكني أحتاج مزيدا من الوقت كي أعود راجس الذي كنت عليه هز نولان رأسه متفهما وسمح له أن يذهب إلى غرفته لنيل قسط من الراحة فودعه الأشقر متمنيا له ليلة هانئة غافلا عن الأعاصير التي اجتاحت العجوز والفوضى التي حلت بأفكاره فتلك الليلة التي مضى عليها عقدان من الزمن كانت أحلك ليالي حياته بالنسبة لفارس نشأ في عائلة متجذرة في التنظيم العسكري الملكي، أسمى وسام قد يوشح به هو أن تقبض المنية روحه في ساحة المعركة بعد أن مزق الأعداء بسيفه وتمزق جسده بأنصالهم، فلطالما اعتبر أن موت الفارس هو الدليل على أنه أدى مهمته بشرف وتفان واستحق نيل تلك الميتة الشريفة. رفع رأسه إلى السماء بابتسامة ساخرة وقال كما لو أنه يخاطبهما: أتريان؟ من بين كل الخصال قررتما توريثه التهور والعناد؟ لماذا ذهبتهما قبلي؟ لطالما تفجرت أعينكما رغبة في الحياة فاختطفكما الموت أمام عيني، أما أنا الذي كنت أقفز في قلب ساحة الوغى باحثا عنه باستماتة أراه يقف في الزاوية مبتسما بشماتة يخبرني أن أجلي ما زال بعيدا، لا شك أنكما تضحكان على حالي الآن، اضحكا فقد واتاكما الضحك وأنتما تراقبانني من برجكما العالي، لكني أعدكما أني سأربيه رجلا قادرا على دحر مئة جندي، سيستعيد دماءكما المهدورة، اعدكما \*\*\*\*\* أزعجته أشعة الشمس الصباحية النافذة إلى غرفته ففتح عينيه داعكا إياهما بنعاس، اتخذ خطواته خارجا وغسل وجهه من قربة ماء كانت موضوعة قرب الباب ثم اتجه ناحية الفناء الحجري حيث كان العجوز منغمسا في تدريبه وقد تجرد من رداءه رابطا إياه حول خصره لتظهر ندوب قديمة رسمت خريطة أرض خيالية على ظهره وصدره، جلس ذو الخصلات البيضاء على عتبة الباب مراقبا العجوز بإعجاب حيث تربع هذا الأخير أرضا في حالة تأمل واضعا سيفه فوق ركبتيه، سرعان ما قفز ممسكا مقبضه مقاتلا أهدافه التي كانت دمى من القش حيث مزقها بسرعة البرق ثم وبحركة رشيقة تفادا سهم ضياء المباغت وشرع في قتاله وقد شقت ابتسامة عريضة وجهه، انغمسا في القتال حيث ملأت صرخات الحرب إضافة إلى أصوات التحام النصال الساحة لكن لم يدم الامر طويلا فقد انتهى النزال بوضع نولان نصله على عاتق ضياء قائلا: يبدو أنك نسيت من أكون أيها الغر ابتسم الغر بخبث مجيبا: لا تغتر بنفسك فلم يعد نصلك بتلك الحدة أيها الجلاد راقص ضياء حاجبيه مشيرا لخصر خصمه حيث ثبت خنجره وأضاف مبتسما: احتراما لكبريائك سأعتبره تعادلا قهقه الأكبر مغمدا سيفه وقال: تمارين إضافية تنهد ضياء بقلة حيلة وقال: على أي، أود أن أسألك شيئا جلس نولان على الكرسي ماسحا عرقه مشيرا برأسه للآخر كي يكمل: أريد طريقة لمصالحة راجس فأنت خاله وتعرفه أفضل منا جميعا فتل نولان لحيته بتفكير وقال: ما رأيك أن تحضر المؤونة من السوق بدلا منه، لكن إياك أن تضيع المال فبالكاد استطعت جمع بضع قروش ذهبية خلال الشهر الماضي رفع سبابته بتهديد في آخر جملته فهز ضياء رأسه موافقا ثم أخذ المال وانحنى باحترام بعدها غادر ناحية السوق ومشى في الطرقات الخالية ناحية الساحة الكبرى لكنه شعر بشخص يقتفي أثره فأسرع في مشيه واختفى في زقاق جانبي فلم يجد ملاحقه بدا من الاقتراب، تلفت يمينا ويسارا محاولا إيجاده فشعر بشيء يخز كليته وصوت بارد من خلفه يقول: عشرة لثلاثة، الأفضل أن تستسلم تنهد الشاب باستسلام وقال: كيف تستطيع أن تهزمني دائما يا ذا الساقين القصيرتين؟ رفع ضياء خنجره بتهديد فسحب الشاب كلامه بضحكة صفراء وأضاف ملطفا الأجواء: ما رأيك أن نجري سباقا؟ والفائز يطلب ما يشاء من الخاسر حك ضياء أذنه بخنصره مفكرا ثم هم بالانصراف قائلا: لا أحتاج شيئا الآن ضحك مخاطبه ساخرا وقال: يا لك من متباه، ما الذي يضمن فوزك هذه المرة؟ تنهد ضياء بقلة حيلة وقال: سأجاريك في ألعابك الصبيانية لكن لعشر دقائق دون غيرها ضرب الشاب ظهر ضياء بلطف مقهقها فرمق يده بنظرات مميتة وقال: احذر يدك وإلا قطعتها **ا**لمساحة الشخصية، يعتبرها البعض شيئا عاديا وهناك من لا يعرف بوجودها، لكن بالنسبة لضياء فهي شيء مقدس يحترم كل من احترمه وينهي كل من اخترقه في غير موضع القتال وهذه الخصلة هي ما جعلت معارفه يعتبرونه غريب اطوار متزمتا عاد إلى هدوئه ودس يديه في جيبيه قائلا: ما مدى السباق؟ أشار الشاب ناحية سطوح متقاربة تمتد بشكل مستقيم ناحية الساحة المركزية مجيبا: مسارنا المعتاد تسلقا الجدار بمساعدة النتوءات والشقوق ثم ألقى الشاب حجرا بحيث أن صوت اصطدامه بالأرض كان إشارة انطلاقهما، أطلق الاثنان قدميهما للريح متخطين تلك السطوح المتهالكة برشاقة لكن ضياء كان في المقدمة فقد استخدم الحبال المتدلية والأعمدة الناتئة كطرق مختصرة، إلى أن لفت انتباهه صراخ فتاة صادر من المناطق المهجورة غربي الحي فعدل مساره ناحية مصدر الصوت، وصل بعد دقيقتين ليتفاجأ بجندي يسحب فتاة في الثامن عشرة من منابت شعرها على طول الشارع بينما طفل في الخامس عشرة من عمره مغمى عليه مضرجا بدمائه، كانت الفتاة تتحرك محاولة تقليل الضغط على منابت شعرها والخلاص لكن قبضة الجندي كانت أقوى من جسدها الهزيل وألقاها أرضا قائلا بنبرة تنم عن خبث أفكاره: إن لم تدفعي الجزية بأموالك فستدفعينها بجسدك، يا عاهرة قبل أن يلمسها اخترق خنجر رسغه الأيسر وتلقى ركلة في مؤخرة رأسه أوقعته أرضا، ظهر ضياء من خلف الجندي المترنح وتقدم من الفتاة التي كانت تحاول ستر جسدها ببقايا ملابسها فصرخت مشيرة خلفه، تفادى ضياء ضربة الجندي الغادرة ساحبا الفتاة معه فهاجمه مجددا لكنه أخذ خنجره الذي كان ملقى أرضا باترا يده السليمة ثم وجه ضربات مركزة لكليتي، صدر، معدة ووجه عدوه مشوها ملامحه وشرع يطعن بطنه لدرجة أن أحشاءه غادرت جسده في منظر شنيع ومرعب بكل ما تعنيه الكلمة من معنى: ابتسامة ضياء المريضة وجسده المغطى بدماء عدوه، حتى خصلاته الناصعة اصطبغت بحمرة الدماء القانية والمقززة، نهض بعد أن تأكد من ان الزبانية قد استلمت روح هذا الفاسد وستتكفل ببقية المهمة ومسح يديه في ملابسه المرقعة ثم اتجه إلى الفتاة التي احتضنت أخاها وانكمشت على نفسها قائلة برجاء: أرجوك لا تقتلنا، الرحمة جلس القرفصاء مقابلها وأمال رأسه مخترقا إياها بنظرات صقيعية: لماذا لم تدافعي عن نفسك رغم أنك كنت محاطة بالحجارة والعصي؟ لماذا؟ صرخ بالسؤال فجفلت مجيبة بصوت مرتجف: لأنه لا حول لي ولا قوة فهو رجل أما أنا فمجرد امرأة أمسك فكها وقال بنظرات مخيفة: صه، إياك أن تقرني المرأة ومجرد في نفس الجملة، فالمرأة ليست ذبابة حقيرة أو معاقة تنتظر رجلا ليكملها، تملك عقلا وحكمة وكيدا يزن بلدا، حتى وإن كان رجلا أو بالأحرى حيوانا يتبع شهوته فأنت امرأة تتبع عقلها والعقل هو المنتصر دوما، عليك أن تموتي بشرف وأنت تحمين من تحبين على أن تموتي رخيصة لن يذكرها أحد أو يحزن لأجلها أحد، وهذا الطفل، أتظننينهم سيتركونه وشأنه؟ سيفعلون كل شيء عدا ذلك، سيضمونه لهم ويجعلونه حيوانا مثلهم فك حزام الغمد من حول خصره والتقط الخنجر ثم أغمده ووضعه في حجرها قائلا: الخيار لك إما أن يذكرك الناس رخيصة صارت كرامتها خرقة مسحت بها الأرض والمراحيض، أو فتاة شريفة ماتت دفاعا عن عرضها وصونا لشرفها استقام من مكانه وقد وضع في يدها عملتين فضيتين وتسلق الجدار الذي نزل منه بداية تاركا إياها في مسابقة تحديق مع الخنجر بينما كلامه يتردد في ذهنها دون توقف، سرعان ما ضمت أصابعها الغضة الغمد وقد انبثقت شرارات العزم من عينيها **4** فتحت زرقاويها المتعبتين ببطء على سقف لم تعرفه، التفتت يمينا لتجد شابا بشعر أسود يسند رأسه على ذراعيه بجانب جسدها غارقا في النوم وعجوزا بساق خشبية يتكئ على طاولة احتوت أشياء غريبة قابعة في زاوية الغرفة، حاولت النهوض دون إصدار أي جلبة تسفر عن إيقاظه، سارت على رؤوس اصابعها باحثة عن باب يقودها للخارج لكنها لم تجد فقد كانت هندسة المكان معقدة شبيهة بمتاهة من الابواب والغرف لذلك عادت وحملت الإناء الفخاري الذي كان موضوعا على الطاولة ثم كسرته متسلحة بشظية حادة، استيقظ الاثنان مفزوعين ليجداها تشهر الشظية صارخة بتهديد: من تكونان؟ وكيف وصلت إلى هنا؟ حاول الشاب التقدم منها فلوحت بشظيتها وصرخت مهددة: قف عندك، خطوة أخرى ولا أضمن ما الذي قد أقدم عليه، أتفهمان؟ أنا لا أرهبكما قاطع العجوز هذه الأحداث محذرا الشاب بقوله: ليث بمجرد أن سمعت اسم ليث عادت ذكريات قديمة ومؤلمة إليها فحاولت إقناع نفسها أنه تشابه أسماء لا أكثر وصرخت: هيا أجبني، من تكون؟ ولماذا تحتجزني؟ إياك حتى أن تحلم بالحصول علي أو الاستمتاع بي ووضعت الشظية على وريدها قائلة: أفضل الموت على أن يلمسني أوغاد أمثالكم مد ليث يديه مظهرا خلوهما محاولا السيطرة على غضبها وقال: كفاك هراء، فنون إنه أنا، اهدإي أرجوك اختل توازنها مع تلك الجملة لكن سرعان ما استعادت عزمها وقالت بصوت مهزوز حاولت جعله حازما ما أمكن: من تكون؟ ومن أين عرفت هذا الاسم؟ بدأ ليث يقترب منها بخطى بطيئة هادئة وقال بابتسامة دافئة: طبعا سأعرفه فأنا أول من ناداك به \... قاطعته الفتاة ناهرة إياه وقد غرقت عيناها في الدموع: اخرس، أنت لست هو، لا أعلم من أين عرفت هذا الاسم لكنك لست أخي، أخي مات منذ خمس عشرة سنة، كفاك تظاهرا فقد ليث اعصابه وصرخ: أنا لا أتظاهر، لم يقتلني أبي ذلك اليوم، لقد كان ثملا لدرجة أنه لم يتكبد عناء تفقد قلبي أو تنفسي ثم استعاد هدوءه قائلا بحنان: هل نسيت البطانية الوردية؟ وتناول التفاح المسروق تحت شجرة الصفصاف العجوز؟ وحساؤك الغريب الذي تناولته كي لا أكسر بخاطرك فلازمت الفراش أسبوعا كاملا بسبب الحمى؟ وأضاف بصوت طفولي: فنون، أنا خائف، هلاّ حكيت لي قصة؟ لم تعد قدماها قادرتين على حملها فجثت وقد تبدلت دموع حزنها فرحا فعانقها بقوة وشوق بينما ضربت صدره قائلة بين شهقاتها: أين كنت يا غبي؟ أين كنت عندما احتجتك؟ أين كنت عندما بكيتك ليال عدة دون أن أجد من يمسح دمعتي؟ قبّل مفرق شعرها وقال بهدوء عاكس العواصف التي بداخله: آسف، ما كان علي الاستسلام عندما عدت ولم أجدكم، لم أمتلك الشجاعة الكافية كي أعود في وقت أبكر، لكني لن أتركك بعد أن وجدتك، أعدك فهم بنيامين كل شيء من سياق الحديث إضافة إلى أن ليث قد أخبره سابقا عن طفولته لذلك فضل الانسحاب والوقوف في الزاوية في صمت على أن يقاطع لحظتهما بأسئلة غبية، قاطع تأمله لهما طرق في نافذة البرج فصعد الدرج بينما تصدر ساقه الخشبية طرقا منتظما على الأرض الإسفلتية المغبرة، وقف خلف النافذة وطرق طرقتين متباعدتين فأجاب الطارق بالجواب المتفق عليه، فتح بنيامين الباب وقد حمل هراوة ترقبا لأي طارئ ليفاجأ بضياء الذي كان مغمورا بالدم من رأسه حتى اخمص قدميه فسأله عما حدث لكنه لم يتلقى أي إجابة فقد سبقه إلى الأسفل، حمل بعض الغيارات واتجه إلى الحمام متجاهلا كلام بنيامين بأن نظام تسخين المياه معطل، تنهد العجوز وعاد إلى طاولة تجاربه قائلا بسخط: شباب آخر زمن، يفتقرون لكل ما يحمله الأدب من معنى. بقدرة قادر استطاع ليث ان يشيح بصر فتون عن ضياء الذي كان يبدو كأساطير الرعب الشعبية وأقنعها بالاستلقاء ونيل قسط من الراحة بعد أن تناولت لقيمات معدودة وشربت الدواء الدي أعده بنيامين لأجلها فانكمشت ملامحها بتقزز نظرا لمرارته ثم مسح على شعرها بلطف مسهبين في أحاديث عدة غادر ضياء الحمام أخيرا قائلا بانتعاش: ما أجمل حماما باردا بعد سباق مشتعل، أشعر كأني ولدت من جديد، ثم انتبه لوجود فتون فقال ساخرا: من هذه الفتاة؟ لا تخبرني أنك حصلت على حبيبة يا ذا القلب المتحجر؟ ترك ليث أخته وصوب انتباهه ناحية ضياء قائلا بنبرة آمرة: أين كنت؟ وما سبب الحالة التي وصلت بها؟ حك ضياء مؤخرة رأسه بلا مبالاة وأجاب: مجرد سباق سخيف لا تشغل بالك به عقد ليث ذراعيه أمام صدره ورفع حاجبه باستفهام: واي نوع من السباقات نتيجته ان تلطخ بالدم من رأسك حتى أخمص قدميك؟ هز ضياء كتفيه بلا مبالاة مما استفز ليث فسحبه من ياقة قميصه صارخا بغضب: كفاك افتراء وأخبرني ماهي المصيبة التي ورطت نفسك بها؟ ناظره ضياء ببرود مرعب ناقض ملامع المتعة التي زينت ملامحه قبل لحظات فأمسك رسغ ليث قائلا: أبعد يديك عني يا هذا، بأي صفة تتدخل في شؤوني؟ ضغط على رسغه كتهديد فلم يستطع ليث كبت غضبه أكثر ولكمه مطيحا به أرضا، مسح ضياء بإبهامه خيط الدم الرفيع الذي ظهر من زاوية فمه فاتسعت عينا ليث مستوعبا فعلته وبلع ريقه بترقب بينما وقف الاخر مترنحا وقال مناظرا دماءه: ضربتني، لقد كتبت نهايتك بيديك ودون سابق إنذار هاجمه مسددا لكمات سريعة ومتفرقة بالكاد استطاع تفاديها حيث تلقى واحدة في وجهه وأخرى في معدته مما أسقطه أرضا فأخذ ضياء شظية الفخار التي كانت على الطاولة وتقدم منه ملوحا بها لكن وقفت فتون بينه وبين ليث الممدد قائلة: لن تلمسه إلا على جثتي تحولت تعابيره الغاضبة إلى أخرى مستغربة في جزء من الثانية وقال: من أين خرجت يا امرأة؟ وحك رأسه بالشظية مضيفا: تذكرت، أنت حبيبة هذا المعتوه ثم اقترب من وجهها على حين غرة مما جعلها تتراجع لا إراديا وأمال رأسه مشيرا لليث: لا أنكر أنك جميلة لكن صدقا، ما الذي أعجبك بذاك الظربان الغبي؟ تدخل ليث في هذه المحادثة الغريبة ساحبا فتون خلفه وقال مبديا انزعاجه: أولا هذه ليست حبيبتي، وثانيا، لماذا تجعل كل الفتيات ينفرن مني؟ ما هو عيبي؟ حك ضياء ذقنه بتفكير وأجاب: من أين ابدا؟ رائحتك التي لن تتحملها حتى حيوانات الحظيرة؟ أم لسانك السليط الذي يفتقر لكل ما تعنيه لباقة محادثة النساء من معنى؟ لحظة لقد عرفت، إنه وجهك الشبيه ببطاطا حلوة متعفنة، حتى الأطفال عندما يرونك يحسبونك بعبع قصص الرعب ثم سحب فتون مضيفا: والآن أتركني مع الآنسة كي أبشرها بما هي مقبلة عليه والتفت ناحيتها قائلا: هل واثقة من علاقتك بهذا الأخ؟ انفجرت الفتاة ضاحكة مما جعل وجه ضياء يصطبغ بالسؤال أما ليث فقد اختفى غضبه ليحل محله شبح ابتسامة دافئة، مسحت فتون دموعها وأخذت نفسا عميقا لتضمن خروج حروفها واضحة وقالت: يبدو أنك لا تفهم ما الذي يحصل هنا، أنا اخته الكبرى ولست حبيبته فأبعد ليث يد ضياء عن ذراعها وأضاف: لذا الأفضل أن تبعد يدك عنها قبل أن أكسرها نقل ضياء بصره بينهما وقال: لن تخدعاني، يستحيل أن تكون حسناء مثلها شقيقة بطاطا متعفنة، حتى عيناكما مختلفتان لطم ليث جبينه داعيا الخالق أن يمده الصبر اللازم للتعامل مع هذا الغبي وقال: لقد قالت أنها أختي ولم تقل شقيقتي، أظن الأمور واضحة أطلق ضياء الفا مطولة دلالة على فهمه المتأخر للأحداث لتنطق فتون أخيرا قارصة خده: وانت أيها الصغير ذو المزاج المتقلب، من تكون ومن أي بلاد جئت؟ لم يسبق لي ان رأيت أحدا بلون شعرك الغريب أبعد ضياء يدها الخشنة نافخا خديه بانزعاج بينما وضح ليث هازئا: الذي نعته بالصغير هو شاب سيكمل ربيعه الواحد والعشرين اليوم سحبت فتون يدها بحرج قائلة: لكن بنيتك الجسدية أكثر ضآلة من عمرك، هل تعاني مرضا ما؟ انفجر ليث ضاحكا لدرجة أنه سقط على الأريكة متقلبا بينما صرخ ضياء بطريقة جعلته طفوليا أكثر: أنتَ ستصمت وأنتِ ستخبرينني بكل مصائب ذاك الأرعن حتى أهدده من خلالها، مفهوم؟ لم تكن فتون أول من يخطئ في تحديد عمر ضياء فبنيه الضئيلة مقارنة بليث وكونه يبدو حشرة أمام راجس إضافة إلى ملابسه الفضفاضة التي تخفي قوامه وملامحه الطفولية، كلها عوامل تجعل الآخرين يستخفون به ويفشلون في تخمين عمره الصحيح. ضياء لغز بشري يحير كل من عرفه فمشاعره المبهمة، مزاجه الذي يتغير كل ثانية وماضيه المجهول يجعل قلة من يتعرفون عليه وقلة قليلة من يجيدون التعامل معه وفهم تصرفاته، ومن هذه القلة ليث ونولان جلس الاثنان على الأريكة بينما كان ذو الخصلات البيضاء أشبه بطفل ينتظر قصة ما قبل النوم فتتغير تعابيره حسب الحدث المسرود تركهما ليث منغمسين في أحاديثهما رغم أنه ود لو يهشم رأس الأصغر لأنه لمس أخته لكن ابتسامة فتون الواسعة التي اشتاق لها ثنته عن تنفيذ رغبته، سار بهدوء ناحية بنيامين الذي يكاد يجزم أنه لا يأكل ولا يشرب ولا يتنفس بعيدا عن تجاربه، اتكأ على حافة الطاولة وقال بصوت هادئ يخالف طبيعته: شكرا لأنك كنت لطيفا ولم تتدخل بتلك الأسئلة البديهية ابتسم بنيامين معدلا ترس آلته مجيبا: أنا عالم والعالم يجب أن يتصرف بمنطقية، لماذا قد أحرم شابا انتظر لحظة ما طول حياته وأعكرها أنا بسؤال أعرف إجابته سلفا؟ ابتسم ليث مومئا بفهم وقال حاكا رقبته: في الواقع لدي طلب إن شئت قهقه بنيامين بخفة مجيبا: بما أنك تحدثت معي بأدب فهذا يعني أنه أمر حساس، هيا تحدث رفع ليث بصره إلى أخته وقال: إنه بشأن فتون، إن كان ممكنا أريدها أن تظل هنا ريثما أؤمن لنا منزلا مستقرا، أعني لا أستطيع أخذها معي إلى المدرسة خصوصا أننا متورطون مع الجند وضع الكهل ما كان في يديه وقال: هل أنت واثق؟ استغرب ليث من سؤاله الذي بالنسبة له بدون فائدة فالتفت بنيامين ليقابله وقال: أنا لا مانع لدي فكما ترى حياتي هي آلاتي ووجودها من عدمه سيان بالنسبة لي، لكن أواثق من أنها ستشعر بالأمان وستكون مرتاحة إن بقيت معي؟ أستطيع أن أعرف من خلال ردة فعلها وتغير معاملتها لضياء بعد أن عرفت أنه رجل وليس طفلا أنها عانت كثيرا بسبب الرجال، ولا بد أن الدم الذي على فستانها هو دم رجل نوى بها شرا، وكوني ستينيا لا يجعلني استثناء من حقيقة كوني رجلا أيضا لذا سأكرر سؤالي، أواثق من قرارك؟ تنهد ليث بضياع فبنيامين محق، لكنه فضل أن يأتمن رجلا عجوزا حكيما وشبه منعزل عن العالم الخارجي الخطير على ان يضعها في مكان مكشوف وفي خضم خلافاتهم مع الجند واحتمالية موتهم التي لا تكاد تفارق ذهنه، عض باطن خده بتفكير محاولا دراسة إمكانية وجود حل آخر، شعر أن أفكاره غير منطقية لكن هذا ما يمليه عليه حدسه فنهض قائلا: على أي، هل هناك بعض الملابس لها؟ لا يهم إن كانت أنثوية فضفاضة أم رجالية، المهم ملابس أشار بنيامين إلى غرفة في الزاوية وقال: قد تجد مرادك هناك شكره ليث ودخل الغرفة حيث كانت هناك منتقيا بعض الغيارات النظيفة من اكوام الملابس فقد كان المكان ملجأ أثناء الحرب، وقصد الآخرين ليجدهما مازالا منغمسين في الحديث فأسكتها قبل أن تفضحه أكثر وقال: انتهى وقت الحديث وأنتِ هيا حان وقت الاستحمام، تبدين في حال يرثى لها عبست فتون بطفولية وقالت محاولة استعطافه: ليس الآن أرجوك، لم أنهي حديثي معه، دقيقتان فقط عقد ليث ذراعيه أمام صدره وقال بحزم: لن أنتظر ثانية أخرى، تكفيني فضائحي التي سربتها، وأنظري إلى نفسك، تبدين كما لو أنك لعبت في بركة وحل ثم تدحرجت من فوق تل مليء بالقاذورات، هيا وكفاك عنادا نظرت فتون لضياء بعيون مستنجدة فقال: معه حق، هذه الأوساخ تجعلك تشبهينه وهذه إهانة في حق جمالك، كما اني كنت على وشك المغادرة فعلي الذهاب لإحضار المؤن من السوق والذهاب إلى الميناء من أجل الملح قبل أن يقتلني ذاك العجوز فقد تأخرت بالفعل استقام من مقعده في آخر كلامه فقال ليث باستغراب: أليست هذه مهمة راجس؟ حمل ضياء برده مجيبا: بلى، لكني اتخذتها وسيلة لمصالحته فكما تعرف نحن نحتاجه، كما أنه سيذهب في رحلة صيد غدا صباحا لذا الأفضل أن ينال قسطا مضاعفا من الراحة هز ليث رأسه بتفهم لتقاطع فتون حوارهما قائلة: من راجس؟ بعثر ليث شعرها قائلا: استحمي وسأخبرك أشاحت بوجهها عنه منزعجة فودعهما ضياء أما ليث فقد قرر إصلاح سخان المياه الذي لم يكن يختلف كثيرا عن خاصهم إلا أنه كان أكثر تطورا، أما فتون فقد تقدمت من بنيامين مسترعية انتباهه وقالت: اعتذر لأني شتمتك عندما استيقظت لكني كنت خائفة جدا وكان همي الوحيد هو الخروج أشار بنيامين برأسه نافيا وقال: لا مشكلة فلو كنت مكانك لفعلت نفس الشيء لم تستطع فتون كبح فضولها فقالت: عذرا لكن ما هذا الذي بين يديك؟ وضع بنيامين عربة لعبة مزودة بمجموعة من التروس والعجلات الصغيرة على الطاولة وأخرج مفتاحا من جيبه ووضعه في فتحة في قمتها وأداره بضع دورات ثم نزعه، سُمع صوت طقطقة معدن نتج عن احتكاك التروس ببعضها ولم تلبث العربة أن تحركت بضع سنتمترات وتوقفت فجفلت الفتاة برعب وقالت دون وعي: هل أنت ساحر؟ حمل بنيامين أداته دون أن يجيب فوعت على نفسها وقالت: أعتذر لكن لم يسبق لي أن رأيت شيئا بهذه الغرابة لذلك قلت أول ما خطر ببالي ابتسم الكهل ابتسامة منكسرة وهمس: لست أول من قال ذلك، لقد اعتدت الأمر قبل أن تضيف أي كلمة أخرى ظهر ليث وأمرها بدخول الحمام واضعا الملابس بين يديها فسارت دون أن تبعد نظرها عن بنيامين الذي انغمس في عالمه مجددا لكنه لم يلبث أن وضع كل ما في يديه واتجه ناحية غرفته بغية الاسترخاء أو بتعبير أصح الهروب من هذا الواقع اللعين والذكريات التي عكرت صفاء ذهنه، عاد ليث ليجد البهو فارغا فجلس إلى طاولة العجوز عابثا بآلاته محاولا إصلاحها ولم يشعر بمرور الوقت إلى أن أحس بقطرات ماء باردة على كتفه فالتفت ليجد فتون بشعرها الأشعث تراقبه بفضول فجفل مرتعبا وقال بعد أن وضع يده على صدره: كم مرة أخبرتك ألا تتجولي وشعرك غير مسرح تجاهلته وصبت اهتمامها على الآلة التي سبق لبنيامين أن أراها إياها وقالت: ما هذا الشيء، أعني هل هو سحر؟ هز ليث رأسه نافيا وأجاب: إنها آلة ذاتية الحركة، وتعتمد مبدأ الناعورة في العمل، لكن بدل التيار الذي يولده الماء هناك ترس يضمن حركتها، المشكل هنا أنها تعمل لفترة قصيرة جدا ثم نظر لها ليجد على وجهها نظرات بلهاء فأضاف موضحا: مثلا بدل أن تحتاج عربة مجموعة أحصنة لتحريكها نستطيع أن نعوضها بنموذج أكبر لهذه الآلة وبهذا ستتحرك ذاتيا كالسحر همهمت فتون بفهم بينما تذكر ليث سؤالها فقال: لحظة، هل ذكرت السحر أمام العجوز؟ هزت فتون رأسها إيجابا فقال محذرا: إياك وأن تنطقي هذه الكلمة أمامه مجددا فهي سبب كل معاناته، وأيضا لا تبقي شعرك مبللا هكذا وإلا ستمرضين أخذ المنشفة وشرع في تجفيف شعرها فعانقته على حين غرة وقالت: اشتقت لك بادلها العناق قائلا بلطف: وأنا أيضا عندما لف ساعديه حول جسدها الضئيل أقسم أن بإمكانه حساب عظامها من شدة هزالها، حتى بشرتها البيضاء الصافية صارت شاحبة وحروق الشمس واضحة على يديها ووجها، والندبتان اللتان تجرأتا واستوطنتاه مخربتين جماله، وأخيرا قدماها المتورمتان والخشنتان أمسك كتفيها وقد تذكر أخيرا شيئا مهما فسأل: كيف استطعت أن تقطعي كامل المسافة بين أوراش وساتول؟ أبرزت شفتها السفلى بتفكير وأجابت: أخبرني أنت أولا؟ ومن الرجال الذين كانوا هنا؟ ابتسم بقلة حيلة فبما أنها أجابت سؤاله بسؤال يعني انها ستعاند إلى أن تبلغ هدفها أولا، لذلك أخذها إلى الأريكة ووضع وسادة أرضا كي تجلس عليها ثم جلس خلفها وشرع يجفف شعرها كما اعتادا منذ الصغر وأجاب: بعد تلك الليلة عثر علي رجل يدعى نولان، انعشني واعتنى بي إلى أن عدت الى وعيي واستطعت الوقوف على قدمي، ولا انكر اني كنت مبهورا بقوته، لذلك طلبت منه أن يدربني كي أعود من أجلك، وبهذا وصلت إلى هنا وتدربت في مدرسته. أما بالنسبة لمن رأيتهم فالطفل يدعى ضياء أما العجوز فهو ليس ساحرا بل هو عالم ويدعى بنيامين، وهو من علمني القراءة والكتابة، أما راجس فهو أيضا صديقي وأحد تلاميذ المدرسة لكنه يكبرني بثلاث سنوات. والآن دورك ضمت فتون ساقيها لصدرها وقالت بابتسامة حزينة: أنا سعيدة لأنك عشت حياة هانئة بعيدا عن ذاك الوحش فبعد موتك المزعوم ازداد جنونه وبطشه، بات ينظم مباريات القمار في المنزل وعندما يخسر كل شيء يقامر بي فكنت أستنجد بالجيران، كل مرة اطرق بابا فمنهم من يفتح ومنهم لا، وعندما لا يجد خصوم ابي جائزتهم يشبعونه ضربا وعندما أعود يفرغ غضبه في، لم يلبث أن نشر شائعات سيئة عني كخطة بديلة للتهديد الذي لم يعد مجديا فبدأت ألجأ للغابة، اختبئ بين شجيراتها وفي حتى الصباح فأعود لأجد المكان مقلوبا رأسا على عقب وأبي كعادته مغطى بالكدمات والدماء، قبل سنة ازدادت المشاحنات بينه وبين منافسه بعد خسارته الرهان فحمل منجله ولوح به مهددا فاستغل غريمه ثموله المفرط واستل المنجل من يده مغمدا إياه في صدره ثم اتجه نحوي بنظرات قذرة، ولم يكن أمامي إلا أن جززت عنقه بنفس المنجل الذي سلب به روح أبي شهقت بين دموعها وأكملت بصوت متحشرج: غلبتني الصدمة ولم أعلم ما الذي يجدر بي فعله فخرجت وأنا أركض نحو المجهول، أتبع كل عربة مؤن أراها في الطريق إلى أن وصلت إلى هنا، ووجدتك رفعت رأسها ناحيته بابتسامة فحاوط وجهها قائلا: أعدك أني سأعوضك على كل ما فات، عاجلا كان أو آجلا، لكن حاليا أريد أن أخبرك شيئا استدارت فتون بكامل جسدها منتظرة تتمة حديثه فقال: كما تعلمين أنا أعيش في مدرسة فنون قتالية، ورجال كثر يزورونها لذا لا أستطيع أخذك معي، وخيار البقاء معك بصفة دائمة غير متاح أيضا، لذلك فأنا مضطر لتركك رفقة بنيامين بشكل مؤقت إلى أن أؤمن منزلا يجمعنا، أعني بقاؤك مع عجوز خير من بقائك معي وثلة من الرجال يرونك هناك كل يوم عند الزيارة، وأيضا فالمكان هنا واسع وتستطيعين أن تحظي بغرفة خاصة ومفتاح دون الحاجة للقاء بنيامين، على عكس المدرسة حيث نتشارك الغرف ولا توجد هناك خصوصية اغرورقت عينا فتون مجددا وقالت بصوت مرتجف: هل ستتخلى عني؟ هز ليث رأسه نافيا ومسح على شعرها قائلا: لا الأمر ليس كذلك، أتخلى عن روحي ولا أتخلى عنك، كما أني سأزورك كل يوم وإلا قتلني ضياء مسحت دموعها فركزت على عينيه لتجدهما تميلان إلى البياض فوعى على نفسه واتجه ناحية الرف مخرجا قطرات العيون ووضعها فعادت عيناه إلى لونهما الأصلي ثم ناولها مفتاحا وقال مشيرا لإحدى الغرف: من الآن تلك هي غرفتك، وإن احتجت أي شيء، مهما كان، أعلميني وسآتيك به هزت رأسها مومئة بطاعة ورافقته إلى البرج قائلة: كن بخير ثم غادر \*\*\*\*\* مالت الشمس ناوية الاضطجاع ونيل قسط من الراحة بعد قضاء يوم طويلة في محاولة بائسة لإنارة هذا العالم الكئيب حيث لونت أشعتها البنية المحمرة الأفق ممتزجة بزرقة البحر وهدوءه المريح وقف ذو الخصلات البيضاء على الشاطئ متأملا إياه بضياع، فهما متشابهان في النهاية أو بالأحرى كل البشر يشبهون البحر، فقد تغرك رزانة رفيقك وهدوءه، لكنه يخفي في داخل عواصف وأعاصير ستفتك بك فور الاقتراب منها. أخرج سرة صغيرة من جيبه وأدخل يده بها مخرجا حفنة رماد بدأ ينثرها على طول الشاطئ مرددا أغنية بلغة اجنبية يخالجك شعور بالحزن والرهبة والوقار بمجرد سماعها، اصطبغت يده بسواد ذاك الرماد فلم يتكبد عناء نفضها بل جلس القرفصاء واضعا ذراعيه فوق ركبتيه مسندا رأسه عليهما متأملا الأفق في صمت، إلى أن شعر بشيء صغير وناعم يحتك بجانبه، التفت بانزعاج ناويا سب جذور عائلة هذا الذي قاطع حداده لتنفك عقدة حاجبيه بمجرد أن لمح ذاك الهر الأسود ذا العيون الصفراء المشعة، حمله بلطف وحذر ثم تربع على الرمال وصادم أنفيهما بلطف قائلا: ما الذي تفعله هنا أيها المتطفل الصغير؟ ماء القط بانزعاج وكأنه يتذمر من طريقة حمله غير المريحة فأراحه ضياء في حجره وبدأ يمشط فروه الأسود الناعم بأصابع فخرخر القط مبديا راحته غير مبال بتلوث فراءه بالرماد، تمططت شفتا ضياء في ابتسامة دافئة وقال: أتعلم شيئا؟ أتمنى لو أني ولدت قطا أو طائرا أو أي شيء آخر عدا البشر، آكل وقتما شئت، أستيقظ وقتما شئت، أعيش حيث شئت وسرعان ما أنسى حزني عندما أفقد أحدهم أو لا أتعلق به من الأساس، بت أشعر أن كوني بشريا هو عقاب على خطيئة ارتكبتها عندما كنت في عالم الأرواح، ألا تظن ذلك؟ نهض الهر من مكانه وناظره مطولا كما لو أنه يفهم كلامه ويحلله باحثا عن إجابة منطقية لكنه بدل ذلك شرع في لعق فروه وكأنه لم يرد إرهاق عقله بتحليل مشاكل البشر فقهقه ضياء مضيفا: وأضف إلى الأسباب أني أستطيع تجاهل الآخرين دون أن ألام تملص الهر من حضنه متململا بانزعاج ثم مطط أطرافه وشرع في السير متبخترا فعاد ضياء إلى تأمل البحر وهمس: فلترقدا بسلام \*\*\*\*\* عاد ليث إلى المدرسة بعد أن اضطر لقطع كامل المدينة من غربها حتى شرقها وصولا للميناء، دخل الساحة الحجرية ثم تتبع الرائحة الحلوة التي استقبلته إلى أن بلغ الفرن الطيني المبني بجانب ورشة الفخار الصغيرة خلف غرفة المطبخ، ليجد راجس متقرفصا هناك يخرج قطع الكعك الناضجة، تسلل من خلفه لكن راجس علم بوجوده فقال: المسها وودع يدك احتفظ ليث بيده لنفسه لكنه سرعان ما لاحظ البقع الحمراء على ذراعي راجس فسأل ساخرا: ما بالك صرت كالفراولة؟ حك راجس تلك البقع متحسسا وقال: يبدو أن الدخان الذي أحدثته لم يكن كافيا فقد بقيت بعض النحلات في الخلية وهاجمتني اتسعت عينا ليث بذهول وقال مصفقا بحماس: تعني أنك صنعت كعك العسل، ضياء سيحبه دفعه راجس بعيدا عن الصحن وقال مكشرا بانزعاج: وكأني سأعطيه إياها، الأول يُلسع في كامل جسده والآخر يأكلها جالسا على سريره جلس ليث أمامه بملامح طفولية وقال: لكن اليوم هو ذكرى مولده وسيحب أن تكون هديته كعكته المفضلة التي سيعطيه إياها أكبرنا وأوسمنا وأقوانا وأذكانا و \... حاول راجس كتم ضحكة الفخر وملامح الغرور التي راودته في تلك اللحظة ثم قال متظاهرا الانزعاج: حسنا حسنا كفاك إدهانا، سأمنحك واحدة لكن شريطة أن تخبره أنك سرقتها هز ليث رأسه موافقا ثم حمل كعكة وبدأ يتقاذفها بين يديه بسبب سخونتها ثم وضعها في قلنسوة برده ودخل المنزل، طرق غرفة ضياء بعد تردد ووقوف دام دقائق ثم دخل عندما لم يصله جواب ليجد الغرفة فارغة، لكن رائحتها غريبة، كرائحة نبات محترق، أخذ صحنا كان موضوعا فوق المنضدة ووضع به الكعكة ثم جلس على الحصير منتظرا إياه فغلبه النعاس استيقظ بعد لحظات على صوت ضياء الذي كان مبللا من رأسه حتى أخمص قدميه فقال وقد غلب الذعر في نبرته: ماذا حدث مجددا؟ ابتسم ضياء ابتسامة لطيفة وقال: كنت على الشاطئ فأردت أن أجرب شعور الغرق كما أن شكل ملك الموت كان لغزا بالنسبة لي لذلك أردت لقاءه، لكن الوغد رفض دعوتي، ثم لم أستطع استساغة الطعم المالح في فمي فاغتسلت في النهر \_هل هذه طريقة جديدة لتقول \"أردت إنهاء حياتي لكن غيرت رأيي في آخر لحظة\"؟ هز ضياء كتفيه غير مبال وخلع برده معلقا إياه بمسمار في الجدار، اقترب ليث حاملا الكعكة ومدها له قائلا: هذه من راجس رغم أنه أخبرني أن أقول إني سرقتها خلسة وأخرج قوقعة بحر من جيبه مضيفا: وهذه اضطررت لقطع كامل أوراش كي أحضرها، رغم أن البحار حاول ابتزازي لأخذ المزيد من المال لكني لقنته درسا بسيطا جدا احتضن ضياء القوقعة بين يديه وشمها ثم وضعها على أذنه وأنصت لصوتها مغمضا عينيه براحة ثم قال: أكاد أشم رائحة شواطئ فيستول بها وأسمع زقزقة نوارسها وانكسارات أمواجها، شكرا ليث ابتسم ليث بلطف وقال حاكا مؤخرة رأسه بإحراج: تتحدث وكأني أحضرت ما يستحق الشكر جلس ضياء مستمتعا بالطعام غير مكترث لفراشه الذي ابتل وهو لا يكاد يفصل الصدفة عن أذنه فتركه ليث واتجه نحو غرفته التي يتشاركها مع راجس بغية نيل قسط من الراحة، قبل أن يزوره كابوسه الأثير، غافلا عن العيون الحادة التي تتربصه من النافذة **5** تقدم بخطى تهز الأرض مسببا الرعب لكل من حوله بهالته المظلمة القاتمة، دخل الغرفة دون استئذان فانحنت الخادمة باحترام وغادرت فتقدم من الجالسة على السرير وجلس بجانبها فقالت: ماذا تريد مني هذه المرة، ألم تكتفي من عناد الأطفال شاتاي؟ كانت امرأة في بداية الأربعينيات لكن شعرها الأشيب، التجاعيد الموزعة على وجهها ويديها، عيناها الخضراوان المنطفئتان وجسدها الهزيل يجعلها تبدو في عقدها السادس كسر شاتاي الصمت القاتل بينهما وقال بعد أن رأى صحنها الذي لم يلمس بعد: حتى وإن جوعت نفسك أياما بل أسابيع فلن أسمح لك بالموت، لذا الأفضل أن تكوني امرأة ناضجة وتنفذي الأوامر ابتسمت المرأة بسخرية وقالت: تتحدث كما لو أنك إله بيده حيوات الآخرين، لو كنت مكانك لأنهيت حياة المرأة التي وشت بي وأفسدت كل ما خططت له هز شاتاي رأسه نافيا وقال: لن اقتلك، على الأقل حتى الآن، احتراما للأيام الخوالي والحب الذي كان بيننا ونتيجته المخلوقة التي تحمل دمينا انفجرت المرأة ضاحكة بهستيرية وأضافت: حب، هل قلت أنك تحمل مشاعر احترام تجاه ماضينا. قتلت أخاك وزوجه وطفله وكل من كان في ذاك القصر المشؤوم وتخبرني الآن أنك تحترمني، لقد كرهتك وكرهتني لأني أحببتك يوما، رائحتك، وجهك، صوتك، بت أكره كل ما يذكرني بك، كما أكره الماضي الذي جمعنا وأشعر بالاختناق كوني قريبة منك، لكني أعلم أنك لست كريما لدرجة أن تمنحني ما أريد، لذلك سأحصل عليه بنفسي وعلى حين غرة سحبت سيفه وقربته ناحية رقبتها لكنه تحول إلى رماد قبل أن يلمس جلدها فوقعت على ركبتيها وقد غرقت خضراواها في دموعها الحارة فقال: لو أن الأمور سارت كما خططت له ذاك اليوم لكان حكمي سهلا، فضحايا تلك الليلة سببوا لي عداوات لا حصر لها، لو أنك اخترت الوقوف في صفي كنت سأجعلك أسعد نساء العالم وأقواهن نفوذا، لكنك اخترت تلك المبادئ اللعينة التي ما فتئ حاتم يتشبث بها، لذا ذوقي من نفس الكأس التي أشربته إياها أمسكت المرأة رأسها وبدأت تصرخ بقهر لدرجة أنها باتت تسعل دما أما شاتاي فلم يحرك ساكنا إلى أن شعر بأن قواها قد خارت فحرك سباباته ليظهر دخان أسود أحاط جسدها الخامل وجعله يطفو إلى أن حط على السرير بجانبه فغطاها ومسح على شعرها مراقبا ملامحها التي كان متيمها بها، في زمن مضى وقت مضا **6** وقف أسفل شجرة الكافور فاركا يديه بتوتر وقد اتشح برداء مصنوع من جلد دب أسود كان، اصطاده قبل سنين، مغطيا رأسه بقبعة من نفس النوع حاميا بذلك نفسه من برودة الغابة الشمالية القارس، رفع رأسه إلى السماء حيث صار القمر بدرا سهل نوره الساطع الرؤية رغم الضباب الذي يغطي المكان. لقد مر أسبوع منذ أن بدأ الأشقر رحلة صيده التي كانت موفقة كالعادة، فقد عاد بجاموس وغزالين قام بتمليحهم وتنظيمهم في العربة الموصولة بالحصان المستأجر وها قد حانت اللحظة التي انتظرها شهرين متتاليين أخرجته من شروده خشخشة صادرة من زاوية بعيدة خلف الاشجار المتشابكة فأخرج فأسيه متأهبا للهجوم ليفاجأ بهيئة ضئيلة تتقدم ناحيته حاملة فانوسا بيمناها، بمجرد أن اقتربت أزاحت القلنسوة ورفعت الفانوس محاذاة وجهها لتظهر ملامحها التي سببت تسارع نبضات الأشقر: شعرها الأسود الطويل الذي جدلته وأراحته على كتفها مزينة إياه بدبابيس ذهبية بشكل ورود