كتاب علم اإلنسان واالجتماع PDF
Document Details
Uploaded by Deleted User
الفنون الجميلة بالأقصر
2024
د.أنـور إبراهيـم عبد احلافظ سعادة
Tags
Summary
هذا الكتاب الإلكتروني يتضمن محاضرات في علم الإنسان والاجتماع المخصصة للفرقة الأولى في قسم الديكور. يغطي الكتاب مواضيع مثل أوجست كونت ونشأة علم الاجتماع، مجالات علم الاجتماع ومناهجه، طرق البحث الاجتماعي، وعلاقته بالعلوم الأخرى. يعتبر الكتاب مرجعاً أكاديمياً لطلاب علم الإنسان والاجتماع.
Full Transcript
محاضرات فـي علم اإلنسان واالجتماع الفرقة األوىل -قسم الديكور إعداد د.أنـور إبراهيـم عبد احلافظ سعادة العام الجامعي 2025/2024 1 بيانـات الكتـاب الكلية :الفنون الجميلة باألقصر...
محاضرات فـي علم اإلنسان واالجتماع الفرقة األوىل -قسم الديكور إعداد د.أنـور إبراهيـم عبد احلافظ سعادة العام الجامعي 2025/2024 1 بيانـات الكتـاب الكلية :الفنون الجميلة باألقصر الفرقة :أولى -ديكور المادة :علم اإلنسان واالجتماع عدد الصفحات116 : إعــداد د.أنور إبراهيم عبد احلافظ سعادة 2025/2024 2 حمتويات الكتاب الفصل األول :أوجست كونت ونشأة علم االجتماع. الفصل الثاني :أهم مجاالت علم االجتماع ومناهجه. الفصل الثالث :أهم طرق البحث االجتماعي وأدواته. الفصل الرابع :عالقة علم االجتماع بالعلوم األخرى. الفصل الخامس :ابن خلدون كرائد من رواد علم االجتماع. الفصل السادس :إميل دوركايم كرائد من رواد علم االجتماع. الفصل السابع :ماهية النظم االجتماعية وأنواعها. الفصل الثامن :االنثروبولوجيا (علم دراسة اإلنسان) وفروعها. 3 الفصـل األول أوجست كونت ونشأة علم االجتماع 4 مقدمـة: ولد أوجست كونت ( )1857 – 1798في يناير 1798في مدينة مونتبليه Montpellierجنوب فرنسا ،وينتمي إلى أسرة كاثوليكية من أنصار النظام الملكي ،وقد أظهر كونت تفوقا ً في دراسته ،وفي عام 1814التحق بمدرسة الهندسة العسكرية وانتقل إلى اإلقامة في باريس. وكان المناخ الفكري والسياسي واالجتماعي في فرنسا في عصر كونت متميزا ً بالثورات السياسية المتعددة؛ تلتها ثورة صناعية ترتب عليها نمو طبقتين جديدتين؛ هما الطبقة العاملة الصناعية ،والطبقة البورجوازية الناشئة واتسمت عالقتهما بالعداء الشديد نتيجة لتعارض مصالحهما.فنشأ كونت في مرحلة تفاقمت فيها الصراعات االجتماعية بفصل القوى االجتماعية واالقتصادية والسياسية الجديدة. ونجد أن كونت عانى من الفوضى التي شهدها المجتمع الفرنسي التي ترتب على انهيار النظام االجتماعي بعد الثورة الفرنسية ،ومن ثم وجه اهتمامه نحو إعادة بناء النظام العام على أساس من االتساق واالجتماع والتوازن واالنسجام. فارتباط كونت بسان سيمون طور لديه الرغبة اإلصالحية ،وتأثره بالفكر الفلسفي السائد حينئذ ساعد في صياغة تصويره عن العلوم الوضعية الذي تأسس على ثالث مقومات هي :صياغة نسق موحد للمعرفة يتضمن المناهج القادرة على تحصيل المعرفة وتطورها ونموها ووضع األسس المنهجية للتحليل االجتماعي والعمل االجتماعي ،وأخيرا ً وضع األسس المنهجية لإلصالحات الدينية واألخالقية. 5 علم االجتماع لدى كونت: رأي كونت أن علم االجتماع هو علم نظري مجرد يهدف أساسا ً إلى دراسة الظواهر االجتماعية من خالل المذهب الوضعي.فموضوع علم االجتماع هو دراسة الظواهر االجتماعية والقوانين التي تحكمها ،وعلى هذا النحو اعتبر كونت المجتمع ظاهرة طبيعية تخضع لقوانينها الذاتية شأنه في ذلك شأن العلوم الطبيعية، وقد أكد في كتابه (السياسة الوضعية) على تعريفه لعلم االجتماع كما أورده في مؤلفه السابق "الفلسفة الوضعية" وأكد على أن علم االجتماع يختص بالدراسة الشاملة لظواهر العقل اإلنساني واألفعال اإلنسانية الناتجة عن هذا النشاط العقلي. وقد اختار كونت مفهوم علم االجتماع Sociologyلهذا العلم الجديد بعد أن عدل عن تسميته بالفيزياء االجتماعية في مراحل مبكرة من اهتماماته بشئون المجتمع.وأدرك بوضوح أن موضوع علم االجتماع هو النظام االجتماعي. وأكد كونت أن الفوضى التي أصابت المجتمع الفرنسي ال تعود إلى أسباب سياسية فحسب وإنما أيضا ً إلى فرضى عقلية ناجمة عن وجود شكلين من التفكير أحدهما التفكير العلمي الوضعي والثاني التفكير الديني الميتافيزيقي ،وترتب على هذه الفوضى العقلية فساد في األخالق والسلوك ،وتوصل بعد ذلك إلى الكيفية التي يمكن فيها القضاء على تلك الفوضى والتناقض وحددها في بدائل ثالثة: -1التوفيق بين التفكير الوضعي "العلمي" والتفكير الميتافيزيقي وهو أمر يصعب تحقيقه ألنه يؤدي إلى اضطراب في التفكير نتيجة للتناقض البين بين هذين الشكلين. -2أن يكون المنهج الميتافيزيقي منهجا ً شامالً تخضع له جميع العلوم.وهذا يعني بساطة شديدة القضاء على الوضعية وإنكار االنتصارات العلمية. 6 -3تعميم المنهج الوضعي بحيث يكون منهجا ً كليا ً عاما ً يشتمل جميع المظاهر الكونية وبذلك يتحقق مبدأ وحدة المعرفة الوضعية. فعلم االجتماع عند كونت هو علم نظري محض يهدف إلى الكشف عن قوانين الظواهر االجتماعية.وقد بين لنا كونت العالقة االرتباطية بين علم الحياة وعلم االجتماع.فمعرفة طبيعة الكائن البيولوجي تخص علم الحياة "البيولوجية" من جانب ،ومن جانب آخر تخص علم االجتماع الذي يبحث في الظواهر االجتماعية وقوانينها وكلها مرتبط باإلنسان. قانون المراحل الثالث والوضعية االجتماعية: يقرر كونت أن هناك ثالثة جوانب رئيسية تنطوي عليها طبيعة النفس البشرية ويجب تنظيم العالقة بينها بصورة مناسبة ،وهذه الجوانب هي المشاعر Feelingsواألفكار Thoughtsواألفعال ،Actionsفالمشاعر تتضمن الدوافع والعواطف التي تكمن وراء ما نمارسه من نشاط؛ بينما األفكار تخدم وتتحكم في المشاعر ،في حين أن األفعال تتحقق أو تتم في ضوء كل من المشاعر واألفكار ،وينطبق األمر ذاته على حياتنا االجتماعية وسلوكنا االجتماعي في المجتمع.إذ أن استمرار المجتمع وتطوره يقوم على أساس من تنظيم العالقات والنظم والمعارف والمعتقدات والقيم التي ترتبط جميعا ً بالمشاعر واألفكار واألفعال. وتشكلت هذه العالقة بين الجوانب الثالثة على مر العصور بأشكال مختلفة ومراحل مختلفة.وقد حدد كونت هذه المراحل بثالث أسماها "المراحل الثالث" للتطور العقلي واالجتماعي.فأطلق على المرحلة األولى المرحلة الالهوتية Theological Stageوهذه المرحلة تتميز بأن مشاعر اإلنسان وخياله تتصل 7 أساسا ً بالبحث عن طبيعة األشياء وأسبابها وأهدافها ،وتظهر التفسيرات في شكل األساطير المتعلقة باألرواح والكائنات فوق الطبيعية ،فيرجع العقل البشري كل ما يحيط به إلى أسباب خارجية عنه ،ويكون العقل رافضا ً للموضوعية التامة وخاضعا ً للشعور غير العقلي ،وينتقل من تفكير وهمي معين إلى آخر ،دون تجانس منطقي وبالتالي ال يحدث تقدم في المعرفة وال في الحياة االجتماعية. ثم يتنقل إلى المرحلة الميتافيزيقية (ما وراء الطبيعة) التي من خاللها تمنح األشياء القوى واألسباب التي تفسر سلوكها ،وتمتاز هذه المرحلة بالتأمل العقلي والبحث عن المعاني والدالالت والكشف عن كنه األشياء ،وهي أيضا ً ميتافيزيقية ألنه ال يمكن إخضاع أي نسق فكري يأتي من خاللها إلى االختبار والتقنين. وفي هاتين المرحلتين لم يستطع البشر مواجهة قضايا ومشكالت الحياة االجتماعية ،مما دعا إلى الوصول إلى مرحلة ثالثة أطلق عليها المرحلة الوضعية التي تهتم بالحقائق المجردة التي يمكن الوصول إليها عن طريق األسباب المؤدية إليها.فهي بذلك مرحلة علمية تقوم على صياغة التعميمات من جانب والكشف عن القوانين التي تخضع لها الظواهر في المجتمع من جانب آخر. فقي المرحلة الثالثة والمرحلة الوضعية انتقل العقل البشري من البحث عن الحقائق المطلقة والعلل األولى ،عن أصل األشياء والغايات البعيدة للظواهر ... إلى البحث عن القوانين أي البحث عن العالقات الثابتة بين الظواهر.وهذه هي المرحلة التي تقدمت فيها العلوم ،وبخاصة العلوم الطبيعية التي تعتمد على المالحظة والتجربة واالستقراء. كما أن العقل البشري لم يصل إلى المعرفة الوضعية دفعة واحدة في جميع العلوم ،بل تدرج في ذلك بد ًءا من "الرياضيات" ألنه العلم األكثر عمومية واألقل 8 تركيبا ً واألشد تجريدا ً وبعدا ً عن الطبيعة اإلنسانية ،وانتها ًءا بعلم االجتماع األكثر خصوصية واألشد تركيبا ً وتعقيدا ً ألنه يبحث في الطبيعة اإلنسانية. أسس الدراسة ومنهج البحث: أنشأ كونت علم االجتماع لتحقيق عمومية التفكير الوضعي للقضاء على جميع أشكال الفوضى الفكرية وتحقيق وحدة المعرفة. وعلى هذا النحو يقوم المنهج الوضعي في علم االجتماع عند كونت على األسس التالية: -1تخضع الظواهر االجتماعية واألحداث التاريخية لقوانين ثابتة – شأنها شأن الظواهر األخرى – وعلى الباحث االجتماعي أن يبحث عن هذه القوانين بالذات. -2منهج علم االجتماع أشبه بالمنهج في علم الحياة ،الذي يقوم على االنتقال من الكل إلى األجزاء ،من المركب إلى البسيط.فالمجتمع البشري كالكائن الحي تتضامن أجزاؤه وتتعاون لخدمة الكل والحفاظ على بقائه.ولذا على منهج البحث االجتماعي أن يركز على ترابط الظواهر االجتماعية وتأثيراتها المتبادلة ،واالنتقال من القوانين األكثر عمومية إلى القوانين الخاصة بكل ظاهرة تدريس. -3يعتمد المنهج الوضعي على المالحظة والتجربة بدالً من التأمل والخيال لتحقيق الدقة والصدق العلمي. والمالحظة لدى كونت ال تقتصر على اإلدراك المباشر للظاهرة أو الوصف المباشر لألحداث.كما أن المالحظة ليست باألمر اليسير ألن الظواهر االجتماعية عادية ومنتشرة ومتداخلة في حياة الفرد والباحث نفسه يشارك فيها بشكل أو بآخر؛ 9 مما يعطيها صفة التعقيد والصعوبة؛ لذلك يجب أن ننظر إليها باعتبارها منعزلة وخارجة عنا كأفراد؛ لذلك يصعب االعتماد على المالحظة في حد ذاتها كأسلوب من أساليب الكشف العلمي للقوانين االجتماعية ،ولكن يمكن اعتبارها عامالً مساعدا ً في الكشف عن القوانين. أما التجربة االجتماعية فتقوم على مقارنة ظاهرتين متشابهتين في جميع األشياء ما عدا خاصية واحدة.وهذه الحالة المختلفة تمكن الباحث أن يستنتج بسهولة أثر هذا العامل الذي كان سببا ً في اختالف الظاهرتين.وإن كانت الطبيعة ال تمدنا بتجارب مباشرة من هذا النمط ؛ إال أنها أمدتنا بتجارب غير مباشرة ،تلك التي توجد في الحاالت المرضية (الباثولوجية) التي تصيب المجتمع وتبدو في أشكال الثورات والفتن واالنقالبات والكوارث االجتماعية. -4طريقة المقارنة هامة في المنهج الوضعي ،وتتم المقارنة بين حاالت مختلفة توجد في آن واحد في مجتمعات مختلفة ،أو مراحل متعاقبة مر بها تاريخ شعب من الشعوب ،أو حاالت التفاوت واالختالف في المجتمع الواحد في زمان واحد؛ فالمقارنة بين المجتمعات تهدف إلى الوقوف على أوجه الشبه واالختالف بينها لتحديد أسباب تطور الظواهر بصور تختلف من مجتمع آلخر ،أو أسباب انتشار مجموعة من النظم في مجتمعات دون غيرها. فالمنهج المقارن يعد بالغ األهمية بالنسبة لعلم االجتماع ولكنه في ذات الوقت ال يخلو من بعض أوجه القصور ،إذ أنه ال يراعي التعاقب الضروري للمراحل المختلفة في التطور االجتماعي.ولهذا يرى كونت أن المنهج المقارن بهذه الصورة يمكن النظر إليه كوسيلة مساعدة ويجب أن يوجه كالمالحظة والتجربة بنظرية عامة. 10 -5والطرق التي يستخدمها المنهج الوضعي القائمة على المالحظة والتجربة والمقارنة تحتاج إلى فهم عقلي لتطور اإلنسانية ،يعتمد على معرفة القوانين التي تحكم مسيرة التاريخ البشري ،وهو ما أطلق عليه كونت "المنهج التاريخي". وعلى هذا النحو فإن علم االجتماع باستخدامه المنهج التاريخي إلى جانب المنهج العلمي الوضعي يصبح علما ً "فلسفيا ً" يبحث في القوانين العامة لحركة المجتمع، ويحاول التنبؤ بمستقبله ،إلى جانب كونه علما ً "وضعيا ً" محدداً ،يتناول الظواهر االجتماعية القابلة للمالحظة والتجربة ويسعى للكشف عن العالقات الثابتة المطردة بينها أي القوانين. ويقوم المنهج التاريخي لدى كونت على مبدأ أن الطبيعة اإلنسانية تتطور دون أن تتغير ،فالقوى المختلفة ،طبيعية كانت أم خلقية أم عقلية ،ال بد أن تظل كما هي في جميع مراحل التطور التاريخي ،وأن تظل دائما ً مرتبطة فيما بينها على نمط واحد ،فكونت لم يفهم من المنهج التاريخي أنه ذلك المنهج الذي يتطلب من الباحث أن يتعرف على طبيعة الظاهرة وعناصرها وتطورها واختالف أشكالها باختالف الجماعات واألزمنة وعالقتها بغيرها من الظواهر وتأثرها وتأثيرها بها ،أي الخطوات الضرورية لكشف وظيفة الظاهرة وقوانينها ،وإنما فهم من المنهج التاريخي معنى فلسفيا ً بعيدا ً عن خصائص األمور وطبائعها ،ال يؤدي إلى كشف علمي ،مما جعله ينحرف في منهجه عن الخطة العلمية لدراسة الظواهر االجتماعية. أما عن االعتراض على استخدام المنهج التجريبي في دراسة الظواهر االجتماعية فإننا نجد أن كونت دعا إلى استخدام النماذج العلمية القريبة من علم االجتماع وهي علوم الحياة ،ولذلك أكد على ضرورة التمييز بين المالحظة 11 المباشرة وغير المباشرة للظواهر االجتماعية ،إذ أن التجريب العلمي يمكن أن يكون غير مباشر من خالل تأثير ظاهرة سلبا ً أو إيجابا ً على أحد عوامل حدوثها. وأما ما يتعلق باستخدام المنهج المقارن فإنه أيضا ً يرى أن تطبيقاته تعود إلى علوم الحياة لكي يبين من خالل صالحيته لدراسة الظواهر االجتماعية ،وقد أخرت األفكار الالهوتية والميتافيزيقية تطبيق المنهج المقارن في دراسة الظواهر االجتماعية ،ومن عيوب هذه المقارنات أنها تقارن الظواهر في حالة ثباتها واستقرارها وليس في حركتها وديناميكيتها ،وبغض النظر عن هذا التصور إال أنها تساعد في اكتشاف القوانين األولية للتضامن من خالل إدراك هذه القوانين من مجتمع أدنى قبل االنتقال إلى مالحظتها في صورتها األكثر تعقيدا ً في المجتمع اإلنساني. العالقة بين موضوع االجتماع وأهدافه العملية: ينقسم محور علم االجتماع عند كونت إلى مبحثين أساسيين بني عليها تصوره لموضوع العلم الجديد هما "الديناميكا االجتماعية" و "االستاتيكا االجتماعية" أو "التقدم" و"النظام" ،وهاتان الفكرتان المتناقضتان تعكسان بجالء الموقف المتناقض الذي وجد كونت نفسه فيه من خالل تأثره بمفكرين يقفان على طرفي نقيض من فهمهما للمجتمع وتصورهما لحركته وهما "كندرسيه" و"دي مستير". ويعد "کندرسيه" رائدا ً من رواد فكرة التقدم ،فقد درس عملية التقدم عبر العصور المختلفة ،وكان مؤمنا ً بقيام علم يصور ويستشف هذا التقدم ،فهو نتاج لعصر التنوير ومن أبرز الناقدين للمجتمع التقليدي وأفكاره الغيبية ،ومن أهم المتطلعين إلى تقدم اجتماعي يؤكد قيمة العقل وفاعليته.في حين أن "دي مستير" يمثل اتجاها ً معاكسا ً يرفض حرية النقد واالتجاهات العقالنية لفلسفة التنوير ،وكان 12 يؤكد فكرة إعادة بناء المجتمع من خالل إرجاعه إلى الحال التي كان عليها في القرن الثالث عشر. أوالً :مراحل التقدم – الديناميكا االجتماعية: إن موضوع التقدم االجتماعي "الديناميكا االجتماعية" عند كونت هو دراسة قوانين الحركة االجتماعية والسير اآللي للمجتمعات والكشف عن مدى التقدم الذي تخطوه اإلنسانية في تطورها. وتمحورت دراساته في التقدم حول نظريتين أساسيتين هما: نظريته في "قانون المراحل الثالث" ونظريته في تقدم اإلنسانية ،ويبحث كونت في الديناميكا االجتماعية ،التغيرات الكبرى في الحضارات اإلنسانية ،ويرى أن هذه التغيرات يجب أن يسندها نظام ،وإال فإن التغير المطلق سوف يؤدي بالضرورة إلى الفوضى واالنهيار والتفكك في المجتمع؛ لذلك ال بد أن تكون دراسة المجتمع شاملة لكل جوانب الحياة االجتماعية؛ ألن الدراسة الشاملة تمكن الدارس من إدراك التغير في جميع النظم االجتماعية ،وأكد على دور القدرات العقلية في التطور والتقدم.وهذا التقدم ال يعني بالضرورة أن يسير في خط مستقيم ،فقد يواجه بتذبذبات أو تقلصات ،كما أن معدله وسرعته مرهونان بالتدخل اإلنساني. وقد وصف كونت مراحل التقدم األساسية ،ورأى أن تفسيره الفلسفي لقانون المراحل الثالث مسألة ضرورية والزمة ،وهو تفسير يرجع القانون إلى الطبيعة اإلنسانية ،مما يسهل الوصول إليه ،طالما أن النمو الضروري يمر بنفس المراحل الثالث التي يمر بها النمو االجتماعي. فقانون المراحل الثالث يشير إلى أن كل ميدان من ميادين المعرفة قد مر في تطوره ثالث مراحل ،الالهوتية التي سادت في العصور القديمة والوسطى، 13 والميتافيزيقية التي سادت في عصر التنوير ،والوضعية التي ظهرت مع ظهور النظام الصناعي الجديد ،وهذا القانون ال يقتصر على تقدم العلوم والمعارف فحسب ،وإنما يحكم أيضا ً تقدم األفراد والمجتمعات. وبالتالي فإنه يؤكد على العالقة الوثيقة بين المراحل التي مرت بها جوانب العقل المختلفة في تطورها؛ فقد كان العمل عسكريا ً في المرحلة الالهوتية ،واالسرة هي الوحدة االجتماعية األساسية أما النظام فقد كان عائليا ً ،والعواطف تمثلت في مشاعر الحب واالرتباط. ونهض المجتمع على التقنين والتشريع في المرحلة الثانية أي الميتافيزيقية، وتمثل التنظيم االجتماعي في الدولة ،والنظام جميعاً ،والمشاعر تمثلت في االحترام والتقدير. وأصبح العمل الصناعي محرك المرحلة الثالثة الوضعية والتنظيم كان إنسانيا ً وعالمياً ،والمشاعر تمثلت في الخير ومحبة اإلنسان. ثانياً :النظام واالستقرار – االستاتيكا االجتماعية أما الفرع الثاني من علم االجتماع فهو ما أطلق عليه "االستاتيكا االجتماعية" وهو الذي يعبر عن فكرة "النظام" ويدرس الظواهر االجتماعية في توازنها واستقرارها وتأثيراتها المتبادلة ،ويرى كونت أن النظام يتحقق في المجتمع طبقا ً لقوانين الطبيعة ،ولكن قوانين الطبيعة االجتماعية تختلف عن باقي قوانين الظواهر الطبيعية في أنها أكثر صراحة مما يترتب عليه أن تنتاب النظام االجتماعي في فترة أو مرحلة معينة بعض المشكالت واالضطرابات ،ولكنه يرى أنه باإلمكان عالج هذه االضطرابات والتغلب عليها بواسطة تدخل اإلنسان اإلرادي؛ مما يعني أن هذه القوانين االجتماعية لها خاصية النسبية. 14 وحتى يحقق النظام بصورة جيدة في المجتمع البد من اتفاق أفراد المجتمع عليه، بمعنى اتفاقهم حول مجموعة من األفكار والقيم والمعايير التي تحقق نوعا ً من الترابط الضروري بين أجزاء المجتمع ،وإضافة إلى أن االجماع داخل المجتمع يحقق التضامن الجمعي؛ فإنه أساس لتقسيم العمل في المجتمع. فاالستاتيكا هي نظرية النظام الذي يشير إلى االنسجام والتوازن في المجتمع، وقد ميز كونت بين ثالث وحدات تكون المجتمع هي الفرد واالسرة واالتحادات االجتماعية. وقد عالج كونت مفهوم الدولة في كتابته واعتبرها النظام السياسي وتصور أن هذا النظام اصطناعي لكنه يعتبر تعديالً للنظام الطبيعي الذي تميل إليه جميع المجتمعات اإلنسانية ،وتبدو الصفة الطبيعية للنظام السياسي ألن الحكومة ضرورية وال يمكن تصور مجتمع بدون حكومة كما ال يمكن تصور حكومة دون مجتمع. ويسمي كونت علم االجتماع الذي يدرس الظواهر االجتماعية من وجهة النظر األولى بعلم االجتماع االستاتيكي ،ويدعو علم االجتماع الذي ينطلق من وجهة النظر الثانية بعلم االجتماع الديناميكي. فموضوع علم االجتماع االستاتيكي هو الدراسة الوضعية التجريبية والعقالنية في آن واحد للفعل المتبادل والمستمر لظواهر المجتمع بعضها ببعض ،والسبب في ذلك أن الظواهر االجتماعية متماسكة ومترابطة والمؤسسات متكاتفة. أما موضوع علم االجتماع الديناميكي فهو دراسة تعاقب الحاالت المجتمعية، وبيان القوانين التي تجعل الالحق منها ناتجا ً عن السابق ،وذلك ألن مجموع هذه القوانين هو الذي يحدد مسيرة التطور البشري ،وهذا العلم مكمل لألول من حيث 15 أن أحدهما يهتم بدراسة الظواهر اإلنسانية من حيث تواجدها؛ بينما يدرس الثاني هذه الظواهر ذاتها من حيث تعاقبها. خاتمـة: فعندما نتمعن في أعمال كونت نجد ثروة هائلة من األفكار التي تقدمت على معظم االتجاهات السائدة والتيارات الفكرية في تاريخ علم االجتماع؛ فقد أعاد صياغة كثير من القضايا واألحكام التقريرية خالل التاريخ الطويل للفلسفة االجتماعية؛ ثم ركب هذه األفكار وجمعها بشكل متناسب تناول فيه العالقات الشخصية ،والجماعات االجتماعية ،والثقافة ،والبناء االجتماعي ،والتغير. أي أن كونت مهد الطريق للتعريف الحديث لعلم االجتماع وأقسامه الرئيسية. كما أنه لم يعزل أي وحدة اجتماعية بغرض التحليل العتقاده بأنه يمكن فهم الكل بشكل أفضل من األجزاء ،وهو ما ينسحب على المجتمع ،ومن تأكيده على التأثير المتبادل بين الفرد والمجتمع تبدو بوضوح تلك النزعة التكاملية ،وبتأكيده على األفكار وتطورها في تغير المجتمع. يعد كونت أحد المفكرين ذوي االتجاه الحتمي ،وعليه فإن علم االجتماع ومن خالل ترتيبه في العلوم النظرية هو علم نظري مجرد خاص بالمجتمع؛ فقد استخدم المنهج التاريخي من خالل تنظيمه لوقائع واحداث تاريخية محددة من وجهة نظره في التطور االجتماعي ،وهو أسلوب لم يكن موفقا ً ألنه انطلق من فكرة أن المجتمع في تطوره يتجه نحو التقدم باستمرار. ومع ذلك فإن إسهامات كونت في تطور علم االجتماع ال يمكن إغفالها أو تجاهلها وبخاصة عندما: 16 حدد مفهوم المعرفة العلمية وبين حدودها وأهمية صياغة القوانين. قسم علم االجتماع إلى فرعين رئيسين االستاتيكا االجتماعية والديناميكا االجتماعية ،المستدين إلى فكرتي النظام والتقدم. وضع األسس المنهجية لعلم االجتماع التي تبدأ بالمالحظة والتجربة وتستخدم المنهج التاريخي والمنهج المقارن في دراسة الظواهر االجتماعية. تصنيفه العلوم من خالل معايير أساسية في التصنيف العلمي. أهمية الوصول إلى القوانين السوسيولوجية باعتبارها نقطة البدء في النظرية االجتماعية. إسهامه في التحليل البنائي والوظيفي ودور التحليل والتركيب في الفهم االجتماعي. تأكيده على أهمية الفلسفة األخالقية بوصفها أساس اإلصالح االجتماعي. ويمكن أن نوجز القول بأن كونت قد دعا إلى علم جديد أطلق عليه "علم االجتماع" حرصا ً منه على إصالح المجتمع الفرنسي في أعقاب الفوضى التي شهدها.ورأى أن علم االجتماع بصورته الوضعية ما هو إال بداية لفلسفته الجديدة. 17 الفصـل الثاني أهم جماالت علم االجتماع ومناهجه 18 بعض مجاالت علم االجتماع: انقسم علم االجتماع إلى عدة مجاالت كل منها يختص بدراسة موضوع معين، فهناك مجال يهتم بفحص عملية التنشئة االجتماعية ،حيث يقوم علماء االجتماع الذين يتخصصون في هذا الفرع من الدراسة بتفسير ما يفعله المجتمع للفرد.وثمة مجموعة تساؤالت وضعها علماء االجتماع في هذا الشأن ،نورد بعضها هنا :ما هو تأثير المجتمع على شخصية الفرد ؟ كيف تتحدد أدوار الجنسين ؟ كيف يكتسب الفرد قيم مجتمعه ؟ وكيف تؤثر أعراف المجتمع على حياة الفريد برمتها ؟ وهناك فرع آخر من فروع علم االجتماع يتعامل مع السلوك الجمعي ،والمقصود بذلك أن ينصب االهتمام أساسا ً على دراسة التنظيمات والجماعات االجتماعية في المجتمع ،ويهتم محال السلوك الجمعي بمسائل معينة مثل ظهور مجتمعات جديدة، ووحدات اجتماعية جديدة ،محاوالً تفسير السبب الذي يكمن وراء ظهور هذه األشياء إلى حيز الوجود.هذا ،ويحتل المجال الكلى للمحركات االجتماعية ،موقعا ً أساسيا ً في دراسة السلوك الجمعي. وثمة مجال ثالث ،يعتبر بمثابة محصلة طبيعية أو امتداد للسلوك الجمعي ،وهو مجال المؤسسات والنظم االقتصادية ،ويمكن النظر إليه على هذا النحو ،ألن معظم الحركات االجتماعية يؤدي إلى تأسيس نظم ومؤسسات.ومثال ذلك أن اهتمام المجتمع بتعليم أعضائه يؤدي إلى تأسيس المدارس العامة والخاصة ،والمجتمعات والمعاهد العلمية ،وهناك مؤسسات أخرى تعتبر محل اهتمام لعلماء االجتماع، كاألسرة ،والهيئة الدينية ،والحكومة ،ووسائل االتصال الجماهيري أو أجهزة اإلعالم. 19 ويعتبر مجال الثقافة ،من المجاالت الهامة لعلم االجتماع ،حيث عرفت بأنها مجموعة القيم أو طرق التصرف التي تعتبر كامنة في مجتمع ما ،وهي تنتقل إلى األعضاء الجدد لهذا المجتمع ،حيث يظن أن القيمة هي عبارة عن عامل سببي مستدمج يدفع إلى السلوك والتصرف بطريقة معينة دون أخرى.لكن هناك اعتراض على هذا التعريف يشير إلى أنه يمكن لفرد معين أن يؤمن بقيمة التعليم مثالً لكن ليس هذا دليل على أن ذلك الفرد سوف يتابع مسألة التعليم الذاتي لنفسه أو يعاون غيره من أعضاء أسرته على التعلم.ويستطرد أصحاب هذا االعتراض قائلين إن معظم أعضاء المجتمع األمريكي مثالً يؤمنون بقيمة المحافظة على حياة البشر ،ومع ذلك فإن هذه القيمة لم توقف هؤالء عن قتل اآلخرين في أوقات الحرب.ولذلك يفضل بعض علماء االجتماع دراسة معايير Normsالسلوك أو مستوياته.عند االهتمام بالفروق الثقافية.كما درست الثقافة باعتبارها مؤشرا ً لمعرفة مستوى نمو المجتمع وأسلوبه في حكم ذاته وقدرته على التطوير. ونتناول "اإليكولوجيا البشرية" كفرع لعلم االجتماع دراسة الناس في وضعهم الفيزيقي.حيث تهتم بتفسير ظواهر معينة مثل: تلويث اإلنسان لبيئته ،وتأثير ذلك على أداء البيئة لمهمتها بالنسبة لإلنسان في الحاضر والمستقبل ،وتهتم كذلك بظاهرة ازدحام المدن ،وزيادة الكثافة السكانية في مناطق معينة وتأثير ذلك على اإلنسان والبيئة وعلى العالقة بينهما.وتضع تساؤالت مثل :هل يؤدي الناس أدوارهم على نحو مختلف عندما يعانون من التزاحم ؟ وتحاول أن تجيب عليها ،كذلك يعد مجال التعاون اإلنساني برمته محورا ً الهتمام عالم االجتماع الذي يدرس اإليكولوجيا البشرية ،ومع ذلك.قد يهتم عالم االجتماع بالعوامل الفيزيقية التي تؤدي إلى هذا التعاون.أكثر من اهتمامه بالمضامين البشرية لذلك التفاعل. 20 وأخيرا ً -وليس بأخر -يعتبر مجال دراسة المشكالت االجتماعية من أوسع محاالت الدراسة في علم االجتماع على اإلطالق ،ويطلق عليه أحيانا ً اسم "علم االجتماع التطبيقي" ،وهو يهتم باألساليب والطرق التي يمكن بواسطتها االستفادة من البيانات والمعلومات السوسيولوجية للتوصل إلى حلول عملية للمشكالت االجتماعية القائمة ،ومثال ذلك أنه يمكن لعالم االجتماع – في هذا المجال – أن يركز اهتمامه على مشكلة التعليم وكيف يمكن حلها عملياً ،وثمة مشكالت عديدة تدخل ضمن هذا المجال مثل :الزيادة السكانية وعدم االستفادة منها كما ينبغي، وارتفاع معدالت بعض أنواع السلوك اإلنحرافي في بعض المجتمعات ،ومشكالت التسيب ،والفساد اإلداري ،وانحراف الصفوة اإلدارية ،والغش بأنواعه ،والتزوير. المنهج التاريخي: ال شك أن هناك عالقة سببية بين الماضي والحاضر سواء من حيث أنماط الحياة السائدة أو من حيث النظم والمستوى الحضاري في كل حقبة من حقبات التاريخ؛ هذا ويعتبر العالم العربي ابن خلدون هو أول من استخدم المنهج التاريخي في مقدمته الشهيرة – مقدمة ابن خلدون – ثم الفيلسوف جيوفاني فيكو ،ولكن الفضل في تحديد معالم المنهج التاريخي يعود للفيلسوف الفرنسي سام سيمون الذي عمل على الربط بين المنهج التاريخي والمنهج العلمي. فالطريقة التاريخية تستخدم عادة إذا ما أراد الباحث أن يحكم على الحاضر في ضوء ما حدث في الماضي مرتكزا ً على عدة مصادر منها ما هو أولي ،ومنها ما هو ثانوي ،ومنها ما هو ميداني ،وقد تتنوع مصادر الباحث فتكون إما رسمية صادرة عن هيئة أو جهة حكومية أو تكون صادرة عن هيئات خاصة ،وإن كانت بولين يونج P. Yongترى أن مصادر المنهج التاريخي هي الوثائق والمصادر التاريخية المتنوعة والتاريخ الثقافي والمادي والمصادر الشخصية. 21 وعلى الباحث االجتماعي في كل األحوال وأيا ً كانت مصادره أن يبذل دائما ً قصارى جهده للتأكد من صدق المصدر ومدى دقته مستعينا ً في ذلك بما اصطلح على تسميته باختبارات أو تحليالت المصادر التاريخية والتي تنطوي تحت نوعين رئيسيين؛ أولهما ما يعرف بالتحليل الخارجي ،وثانيهما ما يعرف بالتحليل الداخلي، ويرتكز النوع األول على نقد الوثائق للتحقق من شخصية كاتبها ومؤرخيها وما عرف عنهم من صدق وأمانة علمية ،وذلك بدراسة تاريخ كل كاتب أو مؤرخ وما كتبه االخرون عنه؛ فضالً عن التحقق من تاريخ النشر لما له من داللة على ما ورد بالوثائق ذاتها من بيانات ،ويرتكز النوع الثاني – التحليل الداخلي – على التأكد من حقيقة المعاني أو المعلومات أو البيانات التي تضمنتها الوثائق بشتى الطرق ومحاولة التعرف على ما تضمنته من متناقضات أو أخطاء. وبعد ذلك كله يأتي دور الباحث في محاولة تنسيق الحقائق والمعلومات التي توصل إليها والربط بينها في كل متكامل ،ثم استقراء هذه البيانات وتفسير مدلوالتها في ضوء األحداث التاريخية المصاحبة أو التطور الحضاري؛ حتى يصل الباحث إلى تفسير النتائج وتحليلها ومقارنتها بما توصل إليه غيره من الباحثين. المنهج التجريبي: وعلى كل حال فإن المنهج التجريبي هو عبارة عن إجراء بحثي يقوم الباحث خالله بخلق أو إيجاد الموقف بما يتضمنه من شروط وظروف محددة حيث يتحكم في بعض المتغيرات ويقوم بتحريك متغيرات أخرى حتى يستطيع أن يتبين تأثير هذه المتغيرات المستقلة في المتغيرات التابعة أو بمعنى آخر فإن المنهج التجريبي هو "محاولة لتحديد العالقة السببية بين مجموعة متغيرات محددة". 22 ويرجع الفضل في تقدم المنهج التجريبي إلى فرانسيس بيكون عندما ذكر أن الوسيلة الفعالة في البرهنة على صدق أحد الفروض تتمثل في "طريقة الحذف"؛ حيث يستطيع الباحث جمع الفروض التي يحتمل أن تكون سببا ً في حدوث ظاهرة ما ،ثم يقوم بحذف ما يجده غير مؤكد حتى ينتهي إلى سبب وحيد ،كما يرى بيكون أيضا ً إمكانية الكشف عن الصفات النوعية لألشياء أو خصائصها باستخدام ما أطلق عليه "قائمة الحضور" التي تحتوي على جميع الحاالت الخاصة التي تتواجد فيها تلك األشياء أو الخصائص في صورتها األولية ،وتعمل قائمة الحضور على فحص صفة أو ظاهرة بعينها ،وإلى البحث عن جميع األمثلة التي توجد عليها ،و"قائمة الغياب" فتأتي بحاالت مقابلة لتلك التي امكن فحصها في قائمة الحضور بحيث تكون كل جماعة هنا مقابلة لحالة خاصة هناك ،وبحيث تشترك الحاالت في جميع الظروف ما عدا ظرفا ً واحداً ،أما "قائمة التدرج" وفيها يقوم الباحث بإحصاء جميع الحاالت الخاصة أو األمثلة الجزئية التي توجد فيها صفة أو ظاهرة معينة بدرجات متفاوتة. هذا وقد اتخذت تلك الطرق عدة مسميات أخرى لدى جون ستيورات مل ،هي طريقة االتفاق وطريقة االختالف وطريقة التغير النسبي ،وأضاف ما إلى هذه الطرق طريقة "البواقي" التي تمثل أسلوبا ً تجريبيا ً ينتهي إلى العثور على ظاهرة جديدة كانت مجهولة وتتطلب تفسيراً؛ بمعنى أنه إذا ما أدت مجموعة من المقدمات إلى مجموعة من النتائج ،وأمكن إرجاع جميع النتائج في المجموعة األولى ما عدا مقدمة واحدة؛ فمن الممكن أن توجد عالقة بين المقدمة والنتيجة الباقية. منهج البحث األنثروبولوجي: قد يكون من المفيد أن نعيد تأكيد أن نقدم أي علم من العلوم يتوقف بدرجة كبيرة على وجود منهج محدد واضح المعالم للبحث؛ يساعد في التوصل إلى معرفة 23 منظمة للواقع المدروس؛ بحيث يعتمد الدارسون على هذه المعارف في تشييد النظريات العلمية وفي إعادة فحصها من جديد للتأكد من صدقها أو إضافة عناصر جديدة إليها حتى تصبح أكثر شموالً وتكامالً ،والبحث هو عملية تقصي الوقائع محل البحث باستخدام طريقة منظمة لتحقيق هدف من األهداف. أما المنهج فهو الطريقة التي يتبعها الباحث للوصول إلى هذا الغرض أو هو الخطة العامة أو اإلطار الذي يرسمه الباحث لتحقيق أهداف بحثه ،وإذا ما نظرنا إلى تاريخ األنثروبولوجيا واالتجاهات النظرية المختلفة التي ظهرت خالل هذا التاريخ؛ لوجدنا أن أهم ما يميز األنثروبولوجيا عن علم االجتماع هو منهج البحث، واعتماد الدراسات األنثربولوجية على أداة أساسية في الحصول على المعلومات هي المالحظة المباشرة أو المشاركة التي تقتضي من الباحث أن يقيم فترة زمنية كافية مع المجتمع محل الدراسة ،وبحيث يستطيع معها أن يتعرف على الوظائف المختلفة التي تؤديها النظم االجتماعية في مجتمع البحث. المنهج الكمي أو االحصائي: المنهج االحصائي يعتبر اليوم القاسم المشترك لكثير من البحوث السوسيولوجية ولغيرها من البحوث في مختلف مجاالت العلوم االجتماعية األخرى ،حيث يلعب المنهج االحصائي دورا ً أساسيا ً في تحقيق الغايات الرئيسية لتلك العلوم سواء فيما يتعلق بالتفسير والتنبؤ أو خالل مرحلة جميع البيانات ،وإعادة التحقق من ثبات وصدق األدوات المستخدمة في جمعها. هذا ويكتسب المنهج االحصائي قوته وفعاليته من عدة اعتبارات أساسية لعل من أهمها: 24 أ ) إخضاع الظواهر محل البحث للتحليل الكمي القياسي يزيد من قدرة الباحث على اإلحساس بمدى التغير في هذه الظواهر وبالتالي يزيد من قدرته سواء على االستنتاج أو على التنبؤ السليم. ب) إن الطريقة اإلحصائية تهيئ للباحثين أسلوبا ً موضوعيا ً محايدا ً للبحث له قواعده واصوله التي يجب أن يلتزم بها الباحث حيث يتجنب مواطن الزلل والتحيز الشخصي. جـ) إن الطريقة اإلحصائية تكاد تكون الطريقة المثلى للبحث في ميدان العلوم االجتماعية التي يتطلب فيها دراسة مجتمعات سكانية تتكون من عدد كبير من األفراد المتباينين في صناعتهم وطبائعهم وتصرفاتهم ،وبالتالي فقد يصعب دراسة هذه المجتمعات على أساس بحث الحاالت بشكل فردي دون التعرض ألخطاء التحيز. ولذا فإن الطريقة المثلى للبحث في هذا المجال هي استخدام األساليب اإلحصائية للوصول إلى نتائج قابلة للتعميم. واستخدام اإلحصاء كوسيلة للحصر والتعداد قديم جدا ً ،وإن لم تكن له األساليب التي تضفي عليه درجة كافية من الدقة ،ففي قديم الزمان استخدم اإلحصاء كأداة للقياس ،ولكن األمانة والوعي لم يكونا متوفرين في جمع البيانات مما أتلف هذه الطريقة وصرف األنظار عن متابعيها بالتحسين والتجريد؛ إلى أن قامت الثورة الصناعية فظهرت في مستهل القرن التاسع عشر حاجة ملحة إلى إعداد سجالت إحصائية لوصف المجتمع الصناعي وحصر العمال وتقدير أحوالهم وأجورهم؛ إللقاء الضوء على المشكالت االقتصادية واالجتماعية التي أعقبت قيام الثورة الصناعية. 25 ثم حدث تطور واضح في مفهوم المنهج االحصائي مع مستهل القرن العشرين وبوجه خاص منذ قيام الحرب العالمية األولى حيث استخدم اإلحصاء كأداة لحل المشكالت ولتحديد سير األحداث ،ودخل اإلحصاء في نطاق المشروعات الصناعية فأحدث ثورة في تجديد خطوط اإلنتاج وأصبحت المنتجات الحديثة تعتمد في تدعيم كيانها وفي الوقوف على نواحي النقص فيها على الوسائل اإلحصائية. هذا ويدين المنهج االحصائي بتراثه وذيوعه إلى: أ ) التقدم الملموس في علم الرياضيات ونظرية االحتماالت الذي أثر بشكل واضح في زيادة المتاح من األساليب واألدوات اإلحصائية. ب) انخفاض تكلفة البحث االحصائي نتيجة لتقدم نظرية العينات وطرق سحبها وإمكان استخدام العينات للوصول إلى نتائج يمكن االعتماد عليها ،كما ساعد على انخفاض تكاليف البحث االحصائي استخدام األجهزة اآللية في تفريغ وتبويب البيانات التي وفرت الكثير من الوقت والمال الالزمين للحصول على النتائج. والخالصة..أن التقدم التكنولوجي الهائل؛ خاصة في مجال الحواسب اآللية "الكمبيوتر" قد أكد على أهمية وفاعلية استخدام المنهج االحصائي في البحوث السوسيولوجية وغيرها. 26 الفصـل الثالث أهم طرق البحث االجتماعي وأدواته 27 يمكننا أن نحدد طرق البحث السوسيولوجي فيما يلي: دراسة الحالة :Case Study تعطي دراسة الحالة صورة كلية شاملة لدراسة ظاهرة معينة في مجتمع محدد، وقد تكون الحالة موضوع البحث فردا ً واحدا ً أو أسرة أو جماعة أو مؤسسة أو مشروعا ً أو وحدة إدارية؛ بمعنى أنه إذا كنا بصدد البحث عن ظاهرة انحراف شخص معين؛ فإذا هذا الشخص يكون هو وحدة الدراسة؛ أما إذا كنا بصدد دراسة اثر تفكك األسرة في انحراف األحداث؛ فإن األسرة تكون هنا هي وحدة الدراسة، وهكذا تتحدد وحدة دراسة الحالة حسب طبيعة الظاهرة التي نحاول الكشف عن ابعادها وفقا ً لمنهج محدد ومدخل واضح المعالم مستخدمين في ذلك أداة واحدة أو عدة أدوات لجمع البيانات تبعا ً للظروف الخاصة بوحدة الدراسة المبحوثة. هذا ..وتهدف دراسة الحالة إلى الكشف عن العمليات والعوامل التي تقوم عليها نماذج اجتماعية معينة؛ بقصد تحديد خصائص موقف اجتماعي معين أو وحدة اجتماعية أو تنظيمية محددة؛ لهذا تفيد دراسة الحالة في الدراسات االستطالعية أو الكشفية ،كما تفيد كذلك في الدراسات التي تختبر الفروض السببية. مع مراعاة أنه باعتبار أن دراسة الحالة أسلوب يرتكز على حاالت فردية ال يجوز التعميم عن طريقه إال أنه يهيئ الظروف المناسبة إلجراء بحوث أكثر شموالً. المسح االجتماعي :Social Survey ويستخدم المسح االجتماعي كأسلوب لجمع البيانات عن جماعة معينة في بيئة محددة من حيث ظروفها المعيشية ومناشطها وتكوينها االجتماعي ،وبذلك يتناول المسح االجتماعي على سبيل المثال الجانب الصحي أو الزراعي أو دراسة الحالة 28 االجتماعية في منطقة معينة؛ كما يستخدم هذا األسلوب في ميادين متعددة معتمدا ً على االتصال المباشر بين المجتمعات واألفراد ،ولقد استخدم مصطلح "المسح االجتماعي" للتعبير عن البحث االجتماعي الشامل من جهة ،وللداللة من جهة أخرى على أحد األساليب المستخدمة في البحوث السوسيولوجية. هذا ..وتوجد عدة تصنيفات توضح أنواع المسوح االجتماعية؛ فقد يقسمها البعض على أساس مجالها فتكون إما مسوحا ً عامة تسير في اتجاه أفقي ،أو مسوحا ً متخصصة تتخذ اتجاها ً تعميقياً ،ويذهب البعض إلى تقسيمها على حسب مدى التعمق الذي تهدف إليه الدراسة؛ فهي إما أن تكون مسوحا ً وصفية أو مسوحا ً تفسيرية ،وهناك فريق ثالث يقسم المسوح االجتماعية على حسب جمهور البحث الذي تجرى عليه الدراسة المسحية فهي إما مسوح شاملة أو مسوح بالعينة. تحليل المضمون :Conten Analysis يمكننا تعريف تحليل المضمون على أنه أسلوب للبحث يهدف إلى الوصف الموضوعي المنظم الكمي للمحتوى الظاهر لالتصال ،ويقصد باالتصال هنا .. انتقال المعاني التي يعبر عنها بالرموز المختلفة؛ مثل الكلمة أو الصوت إلى اإلجابة عن أسئلة محددة ،مثل :من الذي يقول؟ ماذا ولمن وكيف يقول؟ وما هي االثار المترتبة على كل ذلك؟ ويمكن حصر وحدات تحليل المضمون باختصار شديد في خمس نقاط هي على النحو التالي: أ ) الكلمة :Word أي الرمز ،وذلك عندما يقوم الباحث على سبيل المثال بتحليل كلمات الشعارات المستخدمة على الساحة السياسية؛ مثل كلمة "الحرية" أو "الديمقراطية" ...الخ. 29 ب) الموضوع :Theme بمعنى الفكرة التي تدور حول مشكلة معينة ،وما تضمه تلك الفكرة أو تنهض عليه من عناصر ومكونات. جـ) الشخصية :Character وقد تكون شخصية خيالية أو تاريخية ،وتستخدم في تحليل القصص والدراما والسير والتراجم. د ) المفردة :Item أي الوحدة الطبيعية التي يستخدمها منتج المادة ،وقد تكون كتابا ً أو مقاالً أو حديثا ً أو برنامجا ً تليفزيونيا ً أو إذاعياً. هـ) مقاييس الزمن والمساحة :Space and Time measures وهي عبارة عن تقسيمات مادية مثل عدد السطور أو عدد الصفحات أو الزمن الذي يستغرقه برنامج معين في اإلذاعة أو التليفزيون أو وحدات الطول في الفيلم السينمائي أو التليفزيوني ...الخ. هذا وتتوقف فئات تحليل المضمون على طبيعة المضمون نفسه؛ إذ ينبغي التفرقة بين المادة والشكل؛ فمن ناحية المادة يسأل عادة؛ ماذا كتب أو ماذا قيل؟ ،ومن ناحية الشكل يسأل كيف كتب أو كيف قيل في مادة االتصال؟ ويسير السؤاالن السابقان فئتي التحليل األساسيين ،ويتوقف نجاح أو فشل التحليل المضمون على الفئات التي يستخدمها الباحث. هذا ولتحليل المضمون أو تحليل المحتوى عدة خطوات البد من اتباعها حتى يحقق تحليل المضمون هدفه ،وعلى كل حال هذه الخطوات باختصار شديد هي: 30 أ -تحديد مواد االتصال المستهدفة من خالل الدراسة السوسيولوحية ،ويجب أن يكون ذلك التحديد واضحا ً ودقيقاً. ب -تحديد وحدات العينات المبحوثة. جـ -تحديد فئات التحليل. د -تصنيف محتويات االتصال. هـ -تحليل البيانات المصنفة والتأكد من صدق تحليلها. ثانياً :وسائل البحث العلمي وأدواته: يتفق علماء المنهجية على أن أداة البحث Research Toolهي الوسيلة التي عن طريقها يستطيع الباحث جمع المعلومات أو الحصول على البيانات التي يتطلبها موضوع الدراسة أو التي تعينه على حل إشكالية بحثه. ووسائل البحث العلمي وأدواته متنوعة وكثيرة ،وقد يلجأ الباحث إلى استخدام واحدة منها أو أكثر في آن واحد من خالل سعيه لحل مشكله بحثه. فالباحث قد يعتمد على المالحظة ،أو المقابلة ،أو قد يستخدم كال منهما معاً ،أو قد يضيف إلى كل واحدة منها وسائل وأدوات أخرى؛ كأن يستعين باستمارات تحتوي على أسئلة معينة يقوم الباحث بتوجيهها للمبحوثين ،أو قد يصرف النظر عن كليهما ويكتفي بإرسال أسئلة للمبحوثين حيث يتولون اإلجابة عليها ثم إعادتها عن طريق البريد ..وهكذا ..نجد الباحث يستخدم من الوسائل أو األدوات ما يمكنه من جمع المعلومات المطلوبة لبحثه؛ حسب خطة البحث ومنهجه المستخدم من جهة ،وعلى حسب طبيعة المعلومات المطلوب جمعها من جهة أخرى. 31 وعلى كل فإ ننا سنعرض بإيجاز شديد الهم أدوات جمع البيانات وذلك على النحو اآلتي: المالحظة :Observation يمكن تحديد معنى المالحظة بأنها المشاهدة الدقيقة لظاهرة ما ،مع االستعانة بأساليب البحث التي تتالءم أو تتوافق مع طبيعة الظاهرة المبحوثة ،وتتميز المالحظة عن غيرها من طرق ووسائل وأدوات جمع البيانات بأنها تسجل السلوك اإلنساني في نفس الوقت الذي يحدث فيه ،فيقل بذلك احتمال تدخل عامل ضعف أو قوة الذاكرة لدى المالحظ؛ هذا وتزداد قيمة المالحظة – كوسيلة لجمع البيانات – في الحاالت التي يزداد فيها احتمال مقاومة األفراد لما يوجه إليهم من أسئلة أو عدم تعاونهم مع الباحث اثناء المقابلة مثالً. هذا وتوجد حاالت متعددة في البحث السوسيولوجي ال تصلح فيها سوى أداة المالحظة ،كما توحد بالقطع حاالت أخرى ال تصلح معها المالحظة كأداة أو كوسيلة لجمع البيانات. ومن المالحظة ما هو بسيط وما هو معقد ،ومنها ما هو منظم ،ومنها ما هو عفوي يقوم بها اإلنسان خالل حياته العادية ،ومنها ما هو علمي يعتمد على منهج ويسعى لتحقيق هدف ،ومنها ما هو غير ذلك. وقد يكتفي بالمالحظة المجردة لتحقيق هدف البحث ،وقد تعاونها استمارة تسمى استمارة المالحظة تحدد خاللها نقاط المالحظة ومفهوماتها حتى ال يغيب منها شيء عن بال بالمالحظ وفكره. 32 المقابلة :Interview تعتبر المقابلة من أكثر وسائل الحصول على البيانات شيوعا ً ويتوقف نجاحها على مستوى التخطيط لها من جهة وعلى الكيفية التي تتبع في تسجيل المعلومات والبيانات التي تسفر عنها هذه المقابلة من جهة أخرى ،كما يمكن عن طريق المقابلة جمع البيانات مباشرة من المبحوث والتعرف عن قرب على صورة النفس البشرية بمختلف مشاعرها واتجاهاتها؛ األمر الذي يصعب التعرف عليه عن طريق الوسائل األخرى لجمع البيانات فضالً عن ضرورة استخدام المقابلة كأداة رئيسية في مجتمعات المبحوثين الذي ال يعرفون القراءة والكتابة أو المجتمعات التي تنخفض فيها معدالت الوعي أو الثقافة. ومن أبرز عيوب المقابلة ..التحيز الذي قد يجنح بالباحث نحو قضية ما فيوجه المقابلة لجمع األسانيد التي تؤكدها بصرف النظر عن تلك التي تنفيها ،ومن عيوب المقابلة فداحة التكاليف فضالً عن الوقت والجهد الذي يتطلبه تدريب الباحثين واإلشراف عليهم خاللها. استمارة البحث: تعتبر استمارة البحث أقل وسائل جمع البيانات تكلفة ،كما يمكن الحصول عن طريقها على بيانات عدد كبير من األفراد وباقل وقت وجهد ممكنين ،باإلضافة إلى أنه يمكن تقنينها بسهولة أكثر من أية وسيلة أخرى ،وإن كان من أبرز عيوبها أنها ال تستخدم إال إذا كان مجتمع المبحوثين يجيد القراءة والكتابة وعلى درجة مقبولة من الوعي ،كما أنها – أي االستمارة – تحرم الباحث من التعرف على مدى استجابات أفراد المجتمع البحثي ألسئلته التي تضمنتها االستمارة. 33 هذا وقد ترسل االستمارة بالبريد أو تسلم باليد لألفراد الذين تم اختيارهم ليشكلوا مجتمع البحث في دراسة موضوع ما ،ليقوموا بتسجيل اجاباتهم على األسئلة المتضمنة باالستمارة ثم إعادتها ثانية ،ويتم ذلك كله دون تدخل أو مساعدة من الباحث سواء في فهم السؤال أو في تسجيل اإلجابة عليه. وتنقسم االستمارة إلى نوعين رئيسيين ،أولهما ما يعرف باستمارة الحقائق وهي تعني بتوجيه أسئلة تبحث عن حقائق ومعلومات واقعية ،والنوع الثاني ما يعرف باستمارة االتجاهات وهي التي تبحث عن طلب الراي نحو موضوعات محددة كطلب معرفة اتجاهات الرأي العام مثالً حول أمر ما من األمور. ولالستمارة شروط يجب مراعاتها حتى تؤدي الغرض ،ولعل من أهم تلك الشروط ..أن تكون االستمارة قصيرة ال تحتاج اسئلتها إلجابات مطولة ،وأن تكون اسئلتها مصاغة بطريقة سهلة والفاظ ال تحتمل التأويل ،وأن تكون األسئلة متدرجة وال يضم السؤال الواحد أكثر من فكرة ،وأال تشتمل األسئلة على وقائع شخصية أو على طلب بيانات محرجة ال يمكن للمبحوث أن يجيب عليها. ولكي تكون االستمارة معدة بشكل جيد لتحقيق الغرض المرجو منها يجب على الباحث أن يجتاز الخطوات أو المراحل اآلتية: أ ) تحديد البيانات المطلوب جمعها تحديدا ً واضحاً. 34 ب) وضع نموذج مبدئي الستمارة البحث. جـ) تجربة أو اختبار االستمارة على عدد غير قليل من المبحوثين. د ) إجراء التعديالت الالزمة على االستمارة ووضعها في شكلها النهائي على ضوء ما افرزته تجربة أو اختبار االستمارة. هـ) إرسال االستمارة لألفراد موضوع الدراسة وضمان عودتها بطريقة ميسرة ومحددة سلفا ً ومفهومة لدى جمهور البحث. هذا وتعد االستمارة The Questionnaireمن أكثر أدوات جمع البيانات قبوالً وتفضيالً لدى كثير من الباحثين ،ويعود هذا التقبل أو التفضيل لعوامل وأسباب نوجزها في عجالة هنا ،ولمن أراد االستزادة يمكنه الرجوع إلى أي من مؤلفات في البحث االجتماعي.أن ذلك التفضيل قد يعود إلى االستمارة ذاتها ،ومنها ما يرجع للمبحوثين ،ومنها ما يتصل بطبيعة البحث ذاته. 35 الفصـل الرابع عالقة علم االجتماع بالعلوم األخرى 36 عالقة علم االجتماع بالعلوم األخرى يرتبط علم االجتماع بطائفة ال حصر لها من البحوث والدراسات العلمية التي تمده وتغذيه بمعلومات زاخرة تخدم أغراضه في الوصول إلى القوانين االجتماعية، ولما كانت دراسة العالقات التي تنشأ بين األفراد في مجال النشاط االجتماعي من أهم وظائف علم االجتماع؛ كان من الضروري أن يرتبط هذا العلم من ناحية بالعلوم اإلنسانية مثل التاريخ واألنثروبولوجيا واألثنوجرافيا والجغرافيا والبيولوجيا والنفس ،ويرتبط من ناحية أخرى بالعلوم االجتماعية الخاصة مثل علوم السياسة واالقتصاد واألخالق واللغة والدين وما إليها. يرتبط علم االجتماع بالتاريخ ألن عالم االجتماع البد من رجوعه إلى الماضي للوقوف على طبيعة الحقائق االجتماعية وتطورها ومعرفة الوظائف التي كانت تؤديها النظم االجتماعية ،وهذا ال يتأتى إال بالرجوع إلى التاريخ ألنه سجل الماضي الحافل بمختلف مظاهر النشاط اإلنساني ،وحقائق االجتماع ترسب في خضم التاريخ كما ترسب االصداف الثمينة في قاع البحار ،وعلى الباحث االجتماعي أن يستخلصها وينقيها من شوائبها ،ويختار من الحقائق التاريخية ما يخدم أغراضه التي تكون في كثير من األحوال متممة أو مصححة لعمل المؤرخ ،ويحتاج عالم االجتماع في دراساته إلى مختلف فروع التاريخ؛ فالبد من رجوعه إلى تاريخ اآلداب والفلسفة والقانون والنظم والفنون والعقائد وتاريخ التراث الحضاري (الثقافي) ألن هذه األلوان التاريخية تعكس لنا تاريخ األمم ،وتصور لنا عاداتها وتقاليدها وعرفها. ويرتبط علم االجتماع بالدراسات االثنلوجية واالنثروبولوجية (علمي األجناس واإلنسان) وهي البحوث التي تتصل باألجناس في أصولها وفروعها وعوامل اختالطها ؟؟؟؟؟؟؟ والطرق التي سلكتها في هجراتها ،وتتصل أيضا ً بدراسة 37 اإلنسان األول في نشأته األولى ونشأة لغته وأساليبه في التفكير والعمل والحرف التي امتهنها وتطورها وتطور عاداته وتقاليده ولغاته وعناصر ثقافته. وعلم االجتماع وثيق الصلة بعلم الجغرافيا؛ ألن هذا العلم يدرس البيئة وتضاريسها وظروفها المناخية وما تزخر به من مواد تؤثر في نشاط األفراد وفي توجيههم االقتصادي ،وغني عن البيان أن للظروف الطبيعية والمناخية تأثيرا ً ملحوظا ً على العادات والتقاليد ومبلغ الحيوية االجتماعية والنشاط العام ،وقد غالى كثير من الباحثين أمثال (ابن خلدون وراتزل) في تقدير قيمة العوامل الجغرافية ومبلغ تأثيرها في شئون الحياة االجتماعية؛ غير أن هذا اإلسراف ينطوي على خطأ بالغ ،ألن الفرد ليس كما يقول الجغرافيون مجرد قطعة من األرض التي يعيش عليها.إذ أنه بجانب تكيفه وخضوعه لظروف البيئة الجغرافية فإنه الكائن الوحيد الذي استطاع أن يخلق البيئة التي تالئمه. ويمت علم االجتماع بصلة قريبة إلى الدراسات البيولوجية والفزيولوجية ،وهي الدراسات التي تتناول اإلنسان بوصفه كائنا ً حياً ،وتبحث في األسس الحيوية للطبيعة اإلنسانية وأثر هذه العوامل الحيوية في مختلف مظاهر سلوكه الفردي والجمعي ،وتتناول كذلك دراسة أعضاء جسم اإلنسان المختلفة وتطورها وتطور وظائفها وأثر هذا التطور في أعمال اإلنسان وفي النشاط االجتماعي.هذا؛ وقد بالغ بعض علماء االجتماع (وخاصة هربرت سبنسر) في تقدير قيمة العوامل الحيوية لدرجة أنهم فسروا ظواهر االجتماع في ضوء تفسيرهم لظواهر الحياة وذهبوا إلى حد أنهم اعتبروا علم االجتماع فرعا ً من علم الحياة العامة واستعاروا من الدراسات البيولوجية طائفة غير يسيرة من المصطلحات الفنية في علم االجتماع مثل :التركيب العضوي التشريح االجتماعي ،ووظائف األعضاء االجتماعية ،األسرة أول خلية اجتماعية ،المجتمع ذات حية ونفس حاسة شاعرة؛ 38 إلى غير ذلك من المصطلحات المستعملة على نطاق واسع في ميدان الدراسات االجتماعية. ولعلم االجتماع صلة نسب ظاهرة بعلم النفس ،وهو العلم الذي يدرس القوى والقدرات التي تنطوي عليها الطبيعة اإلنسانية والملكات واالستعدادات والعمليات العقلية ومظاهر السلوك الفردي ،ولما كان اإلنسان الفرد في الكون ليس له وجود والحياة اإلنسانية ال يمكن أن تتحقق إال في وسط جمعي؛ فإن المسائل السيكولوجية المشار إليها البد وأن تكون متأثرة بعناصر مستمدة من المجتمع؛ بمعنى أن ذكاء الفرد وخياله وتصوراته ومدركاته الحسية والعقلية ال يمكن أن تكون فردية خالصة؛ بل البد أن تكون في بعض أصولها مستمدة من تصورات اجتماعية ،وقد حاول علماء االجتماع المحدثون أن يرجعوا المعرفة اإلنسانية في ذاتها وقوانين التفكير اإلنساني إلى تصورات المجتمع وتحديداته واصطالحاته.هذا؛ ونجد كثيرا ً من الظواهر السيكولوجية مثل القيادة في المجتمع والزعامة والشخصية واتجاهات الرأي العام ،وموجات االنتحار والجرائم ،والهزات الثورية ،والقوى المؤثرة في نفسية الجماهير – كل هذه الظواهر وما إليها التي قد تبدو في ظاهر األمر ظواهر فردية متأثرة بمنطق األفراد – وإنما ترجع في حقيقة أمرها وفي أصولها لدوافع وأسباب اجتماعية ويجب أن تدخل في نطاق الدراسات االجتماعية. وبجانب العلوم اإلنسانية التي أشرنا إليها؛ نجد أن لعلم االجتماع صالت نسب قوية بالعلوم االجتماعية التي أخذت سبيلها إلى االستقالل مثل علوم السياسة واالقتصاد واألخالق والدين واللغة واالحصاء االجتماعي واالجتماع التطبيقي وما إليها. 39 فمن الناحية السياسية نجد أن النظم السياسية واشكالها وما يتفرع عنها من نظم إدارية وتشريعية والوظائف التي تؤديها ال تقوم إال في وسط جمعي وال تنتظم إال بعد أن يقطع المجتمع شوطا ً ملموسا ً في التطور واالستقرار؛ هذا وال تقوم النظم السياسية إال بدوام المجتمع وال تتغير إال بتأثير قوي ودوافع اجتماعية ألنها وليدة المجتمع ومظهر من مظاهر سيادته على نفسه وتدل على مبلغ نظامه واستجابته لقوانين النمو السياسي ،ورجل السياسة الذي يدرس هذه القوانين ال يمكنه الوقوف على طبيعتها وعلى الحقائق التي تؤدي إليها إال إذا قدم لذلك بدراسة االجتماع السياسي دراسة عامة شاملة ووقف على الدعائم التي تقوم عليها الحياة السياسية وكان ملما ً بكثير من الحقائق االجتماعية التي تساعده على كشف القوانين السياسية المرغوب فيها. وال تخفي كذلك العالقات السياسية الوثيقة التي تربط علم االجتماع باالقتصاد الذي يسميه علماؤه المختصون بعلم الثروة ،وهو يدرسها في طبيعتها وفي انتاجها وفي تداولها وفي توزيعها وفي استهالكها ،وغني عن البيان أن الثروة من حيث هي ال توجد إال في مجتمع وهي معظمها عبارة عن أشياء اجتماعية وال تنتج إال عن طريق االيدي العاملة وال تتداول إال بين أفراد منتظمين مستقرين تربطهم نظم وأوضاع اجتماعية وهم الذين يستهلكون المنتجات بنظام رتيب ،وهذه األمور تفسر لنا قوة الصلة بين االجتماع واالقتصاد ،وإذا كان علماء االجتماع يقللون من شأن الدراسات االقتصادية النظرية (االقتصاد السياسي الكالسيكي) فذلك ألن هذه الدراسات قامت على افتراضات وتصورات ال سبيل إلى تحقيقها في واقع األمر؛ 40 فكانت تفترض وجود انسان اقتصادي غير مسير في اقتصادياته إال بدافع المصلحة الخاصة وغير خاضع إال لمبدأ المنافسة الحرة ،وقد أدت هذه التصورات بعلماء االقتصاد السياسي القدامى إلى دراسة الظواهر االقتصادية دراسة نظرية مجردة وانتهت بهم إلى قوانين ال يمكن أن تتحقق في واقع األمر ،ولذلك ينشئ علماء االجتماع فرعا ً لدراسة ظواهر االقتصاد بوصفها ظواهر اجتماعية وتخضع لعوامل وعالقات اجتماعية ويسمون هذا البحث "االجتماع االقتصادي" ،ويهتم القائمون بدراسة أصول اإلنتاج واالستبدال والتوزيع ومراحل تطورها والقوانين التي خضعت لها واختالف اشكالها باختالف الشعوب وبتطور األزمنة ومبلغ تأديتها لوظائفها ،ويضعون في هذا الصدد قوانين مستمدة من طبيعة الحقائق االجتماعية واالقتصادية معاً ،ويهتم علماء االجتماع أيضا ً بدراسة العالقات االقتصادية بين العمال وأصحاب األعمال أي العالقات المنظمة للعمل ورأس المال وشئون التصنيع.ألن رأس المال أصبح في نظر االقتصاد المعاصر؛ قوة جمعية وليس قوة فردية كما كان قديماً. ولعلم االجتماع صالت قوية بعلم األديان المقارن والتشريع المقارن والبحوث اللغوية والفنون الجميلة وما إليها من الدراسات التي يستعين بها عالم االجتماع في تحليله لحقائق الحياة االجتماعية. 41 ويرتبط علم االجتماع باإلحصاء ،وهو العلم الذي يرمي إلى تطبيق المناهج الرياضية على الظواهر اإلنسانية ،وقد نبه علماء االجتماع منذ القرن التاسع عشر إلى ضرورة االستعانة بالطرق اإلحصائية في دراسة ظواهر االجتماع ،ويرجع الفضل في ذلك إلى العالمة البلجيكي "كتليه" ثم أوجست كونت ،ونبه دوركايم كذلك إلى فضل المناهج اإلحصائية؛ ألن ظواهر االجتماع من طبيعتها أنها ظواهر إحصائية وعددية ويمكن التعبير عنها باألرقام ،ولذلك قام فرع جديد في اإلحصاء يسمى "اإلحصاء االجتماعي" وهذا الفرع أكثر صلة باالجتماع منه باإلحصاء، ويعتبر منهجا ً أساسيا ً من مناهج البحث في علم االجتماع؛ ألن الباحثين في الدراسات االجتماعية ال يقتنعون اآلن باألوصاف العامة والقوانين الكيفية ولكنهم يطمعون في الوصول إلى القوانين الكمية الدقيقة وفي صوغ أحكامهم في صور رياضية ورقمية ورسوم بيانية ،واتخذوا من اإلحصاء االجتماعي طريقة إيجابية فعالة تكفل لهم النجاح وتحفظهم من الزلل. ونظرا ً لتطور الحياة االجتماعية والنمو السريع في وجود النشاط االجتماعي ونشأة المدن وازدياد حركة التصنيع وتعقد العالقات بين األفراد؛ قامت انحرافات في ميدان األسرة والهيئات والطبقات ،وتحللت طائفة كبيرة من الروابط االجتماعية؛ ونشات الخالفات الخطيرة بين الطبقات االقتصادية ،واتسعت الهوة الطبقية ووضحت مظاهر التخلف بين األفراد والجماعات ،ومن ثم قامت الرغبة 42 في إصالح المعتل من شئون الحياة االجتماعية ونادى الراغبون في اإلصالح بضرورة تصحيح األوضاع والقضاء على نذر الفساد وعوامل االنحالل االجتماعي ،ورأوا االستعانة بحقائق علم االجتماع وقوانينه في تحقيق هذه الغايات اإلصالحية ،ومن ثم قامت فنون يقينية (أي فنون معتمدة على األسس النظرية من العلم المطابق) ترمي إلى االنتفاع بحقائق علم االجتماع في ميدان اإلصالح االجتماعي وأهمها :االجتماع التطبيقي والخدمات االجتماعية وفن خدمة الفرد وفن خدمة الجماعة ودراسة المؤسسات وما إليها.وقد تقدمت هذه الفنون وأخذت سبيلها إلى االستقالل النسبي وأصبحت دراسات علمية وعملية ،وأصبح علم االجتماع بالنسبة لها جميعا ً علما ً تحليليا ً يمدها باألسس النظرية والقوانين العلمية ،وتهتم هذه الفنون باإلصالح االجتماعي وأعمال الرعاية االجتماعية ،والنظر في التشريعات االجتماعية المحققة للصالح العام والتي ترمي إلى نشر برامج الرعاية إلى أبعد مدى ،ودراسة المسائل المتعلقة بالتنظيم والتنسيق االجتماعي والرقابة االجتماعية والتخطيط االجتماعي.هذا إلى بحث بعض الحاالت الفردية لتقرير المساعدات العاجلة التي تؤدي إلى تحسين الحالة موضع الدراسة. وعلى هذا النحو نستطيع أن نقرر أن علم االجتماع يرتبط ارتباطا ً وثيقا ً بكل فروع المعرفة اإلنسانية ،وما ذكرناه في هذه الفقرة عبارة عن بعض األمثلة التي تفسر لنا عمق هذه الروابط ومبلغ قوتها. 43 الفصـل اخلامس ابن خلدون كرائد من رواد علم االجتماع 44 ابن خلدون يعتبر ابن خلدون من أعظم مفكري القرن الرابع عشر الميالدي ،وكان رجل بالط وسي?