نشأة التفسير اللغوي PDF

Document Details

ThankfulErudition2240

Uploaded by ThankfulErudition2240

Tags

Arabic Literature Quranic Interpretation Linguistic Analysis Islamic Studies

Summary

This document is a study of the origins of linguistic interpretation. It examines the historical development of this field through the use of linguistic evidence. The document delves into different methodological approaches. The study also touches upon the significance of different schools of thought in Arabic language and its role in interpreting the Quran.

Full Transcript

# **الفصل الأول** ## **مسائل في نشأة التفسير اللغوي** ### **المسألة الأولى: في سَبْقِ السلف في علم التفسير.** * كان علم التفسير علماً مستقلا قائماً بذاته منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم، وكان لهذا العِلْمِ أعلامه البارزون؛ كعبدِ الله بن مسعود الهذلي، وعبد الله بن عباس. * ثم حمله من بعدهم جمع م...

# **الفصل الأول** ## **مسائل في نشأة التفسير اللغوي** ### **المسألة الأولى: في سَبْقِ السلف في علم التفسير.** * كان علم التفسير علماً مستقلا قائماً بذاته منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم، وكان لهذا العِلْمِ أعلامه البارزون؛ كعبدِ الله بن مسعود الهذلي، وعبد الله بن عباس. * ثم حمله من بعدهم جمع من أعلام جيل التابعين؛ كأبي العالية الرِّيَاحِي، وسعيد بن جبير، وعامر الشعبي، ومجاهد بن جبر، والضَّحَّاك بن مزاحم ... وغيرهم. وكان مفسر و التّابعين أكثر طبقاتِ السَّلفِ مشاركةً في التفسير. * ثم حمله في جيل أتباع التابعين أمثال: إسماعيل بنِ عبدِ الرَّحمنِ السُّدِّيّ، والربيع بن أنس البكري، ومحمد بنِ السَّائِبِ، ومقاتل بن حيَّانِ البلخي، ومقاتل بن سليمان البَلْخِيِّ، وغيرهم. * هذا، وقد برزت كتابة التفسير وتدوينه في عهد التابعين وأتباعهم، وكان لهم في ذلك صحائف وكتب، مع ما كان لبعضهم من روايات شفوية، ومِمَّنْ كتب التفسير، أو أملاه على تلاميذه: * سعيد بن جبير الذي كتب جملةً من التفسير لعبد الملك بن مروان. * مجاهد بن جبر الذي كتب تفسير شيخه عبد الله بن عباس. * الحسن البصري الذي أملى التفسير على تلاميذه. * علي بن أبي طلحةَ الوَالِبيُّ الذي كتب صحيفته المشهورة التي فيها تفسير عبد الله بن عباس. * سعيد بن أبي عَرُوبَة الذي كتب تفسير قتادةَ بنِ دِعَامَةَ السَّدُوسِي. * عبد الملك بن جُرَيج المكي الذي ألف كتاباً في التفسير. * مقاتل بن سليمان الذي ألف كتابا في التفسير، وآخر في الوجوه والنظائر. * سفيان الثوري الذي ألف كتاباً في التفسير. * وكيع بن الجراح الذي ألف كتاباً في التفسير. * يحيى بن سلام البصري الذي ألف كتاباً في التفسير، وآخر في الوجوه والنَّظائِرِ. * وهناك غيرهم كثير، وليس ما ذكرته منهم على سبيل الحصر، والله الموفق. ### **المسألة الثانية: شمول التفسير بين السلف واللُّغويين** * لقد كان تفسيرُ السَّلفِ شاملاً للقرآن ، كما أنه يشمل كل ما يتعلق ببيان القرآن من تفسير القرآن بقرآن، أو بسُنَّة، أو بلغة، أو بسبب نزول، أو ببيان حكم، أو غيرها من أنواع البيان التي تدخل في مصطلح التفسير. والمقصود أنَّ السلف لم يقتصروا فيه على نوع واحد من البيان، بل اشتملَ بيائهم للقرآنِ على جملةِ مصادر التفسير. * أما اللُّغويُّونَ، فغلبَ التَّفسيرُ اللُّغَوِيُّ على مشاركتهم في التفسير، ولعل سبب ذلك أنَّ أصل بحث اللُّغويين كانَ في اللغة؛ لذا كان النَّظرُ اللُّغوي أسبق إلى ذهن اللغويين عند تفسيرهم القرآن. * أما السلف، فكان أصل بحثهم بيان القرآن؛ لذا كان يكثر في تفسيرهم بيان المعنى المراد، وكان التفسير على المعنى سِمَةً بارزةً في تفسير السلف. * ولقد أوقع سبق النظر اللُّغوي بعضَ اللُّغويّين في ذِكْرِ أقوال تعتمد على معنى قليل أو شاذ أو مشكوك في صحته. ومن أمثلة ذلك: * قال قطرب: - في تفسير قوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ } [النساء: 34]: «سمعنا العرب تقولُ : أَهْجَرَ النَّاقَةَ بالهِجَارِ ، وهو حَبْلٌ يُجْعَلُ في أنفها تُعْطَفُ به على ولد غيرها ـ وقال أبو محمد: الهجر: حبل يوضع في الرُّسْغِ إلى السَّاقِ ، فإنْ كانَ قوله: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ ؛ أي: اعطفُوهنَّ إليكم، فهو ضد للهجر، إلا أنَّ ابن عباس كان يقول : الهَجْرُ : السَّبُّ، اهجروهن : سُبُوهُنَّ». * إنَّ هذا المعنى الذي حمل قطرب معنى الآية عليه معنى غيرُ مُسْتَعْمَل فِي النَّاسِ ولا مشهور في اللُّغةِ؛ لأنه إنما يُطلق على النُّوقِ، أما إطلاقه على النِّساء في مثل هذه الحال فلم يرد عن العرب. * وقد اعترض على هذا الاحتمال التفسيري أبو بكر ابن الأنباري، فقال: «وهذا القول عندي بعيد؛ لأنَّ المعنى الثاني لم يستعمل في النَّاسِ. والمفسرون يقولونَ: هِجْرَانُهُنَّ : ترك مضاجعتهنَّ». * ولا يترك المعنى المشهور والمتبادر للفظة إلى معنى غامض غريب إلا بدليل يدل عليه، ولا يوجد هاهنا إلا الاحتمال واستعمال اللغة، وليس ذلك كافياً في ترك المشهور؛ إذ لو أُوردت على الآية كل المحتملات لاتَّسَعَ التفسير، ودخله كثير من الأقوال المرذولة. ### **المسألة الثالثة: في الاعتماد على اللغة** * برز من خلال الأمثلة التي ذكرتها عن السَّلفِ واللُّغويّينَ أَنَّ اللُّغة العربية مصدر أصيل، وأنَّه لا بد من الاعتماد عليها، شعراً كانت أم نثراً. * ويظهر أنَّ اللغة من أوسع المصادر التي كان يعتمد عليها الفريقان، وذلك ظاهر بتتبع تفاسيرهم. * ولقد كان في عمل مُفَسِّري السَّلفِ من الصحابة والتابعين وأتباعهم بالأخذ بلغة العرب في التفسير = إجماع فعلى منهم، وهذا العمل حُجَّةٌ في صحة الاستدلال للتفسير بشيء من كلام العرب: نثره وشعره. * وإن لم يُقَلْ بالأخذ بلغة العرب في التفسير، فكيفَ سَيُفَسَّرُ القرآن دون الرجوع إليها ؟! * وقد نَصَّ أبو عبيد القاسم بن سلام على الاحتجاج بلغة العرب في التفسير عند تعليقه على أثر أبي وائل شقيق بن سَلَمَةَ في تفسيره دلوك الشَّمس، قال أبو وائل: «دُلُوكُهَا: غُرُوبُها. قال: وهو في كلام العرب: دلكت براح». * قال أبو عبيد: «وفي هذا الحديثِ حُجَّةٌ لمن ذهب بالقرآن إلى كلام العرب، إذا لم يكن فيه حلال ولا حرام، ألا تراه يقول: هو في كلام العربِ : دَلَكَتْ بَراحِ . وقد رُوِيَ مثل هذا عن ابن عباس. * قال: حدثني يحيى، عن سفيان، عن إبراهيم بن المهاجر، عن مجاهد، عن ابن Abbas، قال: كنتُ لا أدري ما فاطرُ السَّماوات؟ حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فَطَرْتُها؛ يعني: أنا ابتدأتها. * قال: وحدثنا هُشَيمٌ، عَنْ حُصَيْنٍ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عُتْبَةَ، عن ابن عباس: أَنَّهُ كَانَ يُسأل عن القرآن، فينشد الشعر». * ومسألة الاستشهاد بأبي عبيد من الاستشهاد بلغة العرب شعرها ونثرها واضحة، وقد مضى ذكر أمثلة في التفسير اللغوي لأهل الحُجَّةِ من السلف في التفسير. * وإذا تأملت الأمثلة السابقة الواردة عنهم في الاستشهاد بنثر العرب تبيَّن ما يأتي: * أَنَّ السَّلفَ كانوا يَكْتَفُونَ بسماع معنى اللفظة من عربي ينطق بها، أو يخبر أنها لغة قومه؛ كالمثال السابق عن ابن عباس في تفسير لفظ «البعل»، ولفظ «فاطر»، وما ورد عن الحسن في تفسير لفظ «الأرائك». * وفيما يتعلق بالنصّ على لغات العرب الواردة في القرآن يلاحظ : أنَّ الوارد عن السلف أكثر من الوارد عن اللُّغويّين، مع أنَّ هذا المجال مما كانوا يعتنون به. * كما يظهر من الأمثلة الواردة عن السلف أنهم يُعْنَونَ بصحة المعنى في السياق، وأنَّه لا يلزمُ مِنْ صِحَّتِهِ لُغَةٌ صِحَّةُ التَّفسير به، وهذا الأمرُ بَيِّنٌ وظاهر في المثال الوارد عن ابن مسعود في قوله تعالى: {خِتَامُهُ مِسْكُ} [المطففين : 26] ، حيث نفى أن يكون المراد بالخِتَامِ الخاتم الذي يَخْتِمُ ، مع صحة إطلاق هذا المعنى المنفي لغةً. * أنَّ السلف كانوا يجتهدون في اختيار المعنى اللُّغويّ المناسب إذا كانَ للفظ المفسر أكثر من دلالة، وهذا )) ظاهر في الأمثلة السابقة. * ويلاحظ أن هذا الاجتهاد في التفسير كانَ في طبقاتِ السَّلفِ الثَّلاثِ: الصحابة والتابعين وأتباع التّابعينَ، ولو كانوا أخذوا ما عند الصحابة ولم يتعدوه، لتوقف الاجتهاد في علم التفسير، والله أعلم. * أَمَّا اللُّغويُّونَ؛ فإنهم مع سلوكهم هذا المنهج الوارد عن السلف، إلا أنهم توسعوا في حَمْل بعض الآياتِ على المحتملاتِ اللُّغويَّة التي ظهرت لهم من خلال جمعهم لِلغَةِ العرب، والتي لم تكن واردةً عن السَّلفِ، ولذا ظهرت عندهم بعض الأقوالِ الشَّاذَّةِ في التفسير؛ كالتفسير الذي سبق ذكرُهُ في لفظ «واهْجُرُوهُنَّ»، ولفظ النَّاقُورِ»، ولفظ مِنْ عَجَلٍ»، والله أعلم. ### **حكم الاستشهاد بالشعر :** * وأما الشعر، فهو كما وصفه الخطيب البغدادي، فقال: «في الشِّعرِ الحِكمة النادرة، والأمثال السائرة، وشواهد التفسير، ودلائل التأويل، فهو ديوان العرب، والمقيد للغاتها، ووجوه خطابها، فلزِمَ كَتُبه للحاجة إلى ذلك». * والاستشهاد بالشعر، حكمه كالنثر؛ إلا أنَّه قد اعترض عليه كما سيأتي، والصواب أنَّ الاستشهاد بالشعر جائز في التفسير، وقد نص على هذا المنهج ابن Abbas، فقال: «إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر؛ فإنه ديوان العرب». * وقد حكي عن بعضهم إنكار الاستشهاد بالشعر في تفسير القرآن، وقالوا: «إذا فعلتم ذلك، جعلتم الشَّعْرَ أصلاً للقرآن. * وقالوا أيضاً: وكيف يجوز أن يُحْتَجَّ بالشَّعْرِ على القرآن، وقد قال الله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224]، وقال النبيُّ : لأَنْ يَمْتَلِيَ جَوفُ أحدِكم قيحاً حتى يَرِيَهُ ، خيرٌ له مِنْ أَنْ يَمْتَلِيَ شِعْراً؟». * وهذا قول ضعيف، وقد ردَّ عليه ابن الأنباري فقال: «فأما ما ادعوه على النحويِّينَ مِنْ أَنَّهم جعلوا الشَّعْرَ أصلاً للقرآن، فليس كذلك، إنَّما أرادوا أنْ يَتَبَيَّنُوا الحرف الغريب من القرآن بالشَّعْرِ؛ لأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا } [الزخرف: 3 ] ، وقال : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٌّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195]. * وقال ابن عباس: «الشعر ديوان العرب». فإذا خَفِيَ عليهم الحَرْفُ من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب، رجعوا إلى ديوانها فالتمسوا معرفة ذلك منه». * وهذا الإنكار ـ كما ترى ـ لا دلالة عليه من نقل ولا عقل، وهو يدلُّ على عدمِ فَهْمِ قائِله، وعَمَلُ السَّلفِ ونَصُّ حبر الأمة ابن عباس حجةٌ يستند إليها في هذه المسألة. ### **تنبيه يتعلق بالاحتجاج بقولِ السَّلفِ في اللُّغةِ:** * وقبل أن أختم هذه المسألة أسوق هاهنا ملاحظة تتعلق بزمن الاحتجاج ونقل اللُّغةِ، وإليك بيانها: * كانَ الصَّحابةُ والتّابعونَ في زمن الاحتجاج اللغوي؛ لذا، فإنَّ الأصل أن يُحتج بكلامهم، وكذا تفسيرهم لألفاظهم التي يتداولونها، ويدخل في ذلك تفسيرهم لعربية القرآن. * أما أتباع التابعين، فإن لم تُدخلهم فيمن يحتج بكلامهم، فلا يخرجون عن كونهم نَقَلَةٌ للُّغةِ، كحال اللُّغويّينَ الَّذِين عاصروهم. * وإنما الفرق بينهم في هذا: أنَّ أتباع التابعين اعتنوا بتفسير القرآن، واللُّغويون اعتنوا مع ذلك بجمع لغة العرب والتدوين فيها. * ومن هنا، فإنَّ اللُّغويَّ إذا فسَّرَ عربيَّة آية إما أن يكونَ سَمِعها من العرب الذين يُحتج بلغتهم، وإما أن يكون نقلها عن غيره ممن سمعها من العرب. * فإن كان نقلها عن العرب، فهو ناقل لما سمعه، ويرجع الأمر إلى توثيقه في نَقْلِهِ، وغالب اللُّغويّينَ الذينَ عاصروا أتباع التابعين لم يُعرف عنهم الكذب في سماعهم للعرب ونقلهم عنهم، بل كانوا موثقين في نقلهم. * وإن كان نقل عمَّن سمِعَ من العرب ـ وهذا هو الأكثر في نقلهم للغة العرب ـ فإنَّ في النقل إبهاماً؛ أي أنَّه لا يوجد سند متصل من اللُّغوي إلى من سُمِعَ كلامه من العرب، وهذا يُبنى عليه أنَّ تفسير السَّلفِ مُقدَّمُ على تفسير اللغويين، وسيأتي مزيد إيضاح لذلك، والله الموفق. ### **المسألة الرابعة: في الشاهد الشعري** * كانت ظاهرة الاستشهاد بالشعر بارزةً عند مفسري السلف، وهي عند اللغويين أكثر، وقد كانت كتب غريب القرآن من أكثر كتب اللُّغويّينَ إيراداً للشواهد اللُّغويَّة، كمجاز القرآن، لأبي عبيدة، وغريب القرآن، لأبي عبد الرحمن عبد الله بن يحيى اليزيدي الذي قال عنه القفطي: وصنف كتاباً في غريب القرآن حسناً في بابه، ورأيته في ستة مجلدات، يستشهد على كل كلمة من القرآن بأبيات من الشعر، ملكته بخطه ...». #### **صور الاستفادة من الشعر في تفسير القرآن:** * ظهر لي من خلال استقراء الشَّواهدِ الشَّعريَّةِ التي يستدل بها مفسّر و السَّلفِ واللُّغويون صورتان: * الصورة الأولى: أنْ يُورِدَ المفسِّرُ الشَّعرَ المُسْتَشْهَدَ به مكتفياً فيه بورودِ اللَّفظِ الْمُسْتَشْهَدِ له، وإن لم يتضح معناه في بيت الشعر الذي استُعينَ به على فهم معنى اللفظ. * وأكثر الشواهد الشعرية المستشهد بها جاءت على هذه الصورة، ومن أمثلة ذلك: * قال أبو عبيدة: {عَاقِرُ} [آل عمران: 40]: العَاقِرُ : التي لا تَلِدُ ، والرَّجُلُ العاقر : الذي لا يُولد له، قال عَامِرُ بنُ الطُّفَيلِ : **لَبِئْسَ الفَتَى إِنْ كُنْتُ أَعْوَرَ عَاقِراً جَبَاناً فَمَا عُذْرِي لَدَى كُلِّ مَحْضَرِ** * و إذا تأملت هذا التفسير، وجدت أنَّ أبا عبيدة قد فسَّرَ العَاقِرَ في الآية بأنها التي لا تَلِدُ، ثمَّ استدلَّ لذلك التفسير بهذا البيت، غير أنَّ اللفظ في البيت غير مفسر، بل هو محتاج إلى تفسير؛ أي: لو قرأت البيتَ مُفْرَداً عن الآية، فإنَّكَ لا تَصِلُ به إلى دلالة لفظ العَاقِرِ. * الصورة الثانية: أنْ يكونَ سياقُ الشَّاهِدِ الشَّعريّ مُبيناً عن معنى اللفظ، ويكون الشاهد بذلك موضحاً لمعنى اللفظ القرآني بذاته، وهو بهذا غير محتاج لبيان، ومن ذلك: * قال أبو عبيدة: في قوله تعالى : {فِي مَخْمَصَةٍ } [المائدة: 3 ]: «أي: مجاعة. قال الأعشى: **تَبِيتُونَ فِي المُشْتَى مِلاءً بُطُونُكُمْ ... وَجَارَاتُكُمْ سُغْبٌ يَبِتْنَ خَمَائِصاً** **أي: جياعاً**. * في هذا البيت ـ كما ترى - يَتَبَيَّنُ معنى الخمائص بسبب مقابلة الشاعر لها بقوله : ملاءً بطونكم، فَيُفهم منه أنهما على التضاد؛ لأن سياق البيت يدل على أنه يذمهم، وأنهم لا يُعطون جاراتهم مما يملكونه. ### **المسألة الخامسة: في علم الوجوه والنظائر ** * ظهرت كتب الوجوه والنظائر في القرن الثاني الذي بدأ فيه تدوين كتب اللُّغةِ التي تناولت مدلول ألفاظ العرب، وكان بروزها على يد مفسّري أتباع التابعين من السلف: مقاتل بن سليمان، والحسين بن واقد، وهارون الأعور، ويحيى بن سلام، وكانوا بهذا قد سبقوا اللُّغويين الذين لم يظهر علم الوجوه والنظائر في كتابتهم إلا عند ابن قتيبة في كتابه تأويل مشكل القرآن، تحت عنوان: (اللفظ الواحد للمعاني المختلفة). * ثُمَّ ظهر عند المبرد في كتابه : ما اتفق لفظه واختلف معناه في القرآن المجيد، وهو مع صغر حجمه لم يكن خالصاً لهذا الموضوع، بل شمل موضوعات أخرى. * ثُمَّ برز في أمثلة كثيرة عند ابن عُزيز السجستاني، ثم كتب فيه ابن فارس كتاباً أسماه: الأفراد. * وكان من الممكن أن يستفيد اللُّغويون من كتب الوجوه والنظائر في معرفة مدلول الألفاظ العربيَّةِ التي وردتْ في القرآن كما استفادوا من كتب غريب القرآن والحديث ومعاني القرآن، غير أنَّ هذا لم يقع في كتب المعاجم اللغوية، حيث لم تتم الاستفادة مما كتبه أتباع التابعين في هذا العلم. * يلاحظ أن كتب الوجوه والنظائر لا تعتمد في معاني الوجوه على شواهد عربيَّةٍ من شعر أو نثر، بل يعمدُ أصحابها إلى النص مباشرةً لاستنباط المعنى من سياقه. ولذا كَثُرَتِ الوجوه التي يذكرونها؛ لأنهم يريدون تفسير معنى اللفظةِ في هذا السياق الذي يفسرونه، دونَ النَّظر منهم إلى الأصل اللغوي للفظة. * وقد ظهر عند ابن قتيبة في حديثه عن (باب اللفظ الواحد للمعاني المختلفة) النظر إلى أصل معنى اللفظ، وقد ذكر أربعة وأربعين لفظاً، وذكر الأصل اللغوي والشواهد لأغلبها. * ولم يبرز الاهتمام بتحرير مدلول اللفظة عربيا في كتب الوجوه والنظائر إلا متأخراً، وكان ذلك عند أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي في كتابه: "نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر"، وكان يُقدِّم الكلام على مدلول اللفظ في لغة العرب ، ثم يذكر الوجوه معتمداً على المفسّرين في ذلك. * ومن ذلك ما ذكر من الوجوه في لفظ الاتباع، فقال: «الأصل في الاتباع : أن يقفو المتَّبع أثر المتَّبع بالسعي في طريقه، وقد يُستعار في الدين والعقل والفعل. * وقد ذكر أهل التفسير أنَّه في القرآن على هذين الوجهين. * فمن الأول : قوله تعالى في طه: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} ، وفي الشُّعراء: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} . * ومن الثاني: قوله تعالى في البقرة : {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتَّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً ، وفي الأعراف: { لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا}، وفي إبراهيم: {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تبعا ، وفي الشعراء: {وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} . * ولا يصح هذا التقسيم إلا أن تقول: إِنَّ الإتباع بالتخفيف والتشديد بمعنى واحد». ### **المسألة السادسة: التفسير اللغوي بين البصرة والكوفة** * إذا تأملت المؤلفات التي كَتَبَهَا اللُّغويون في البحثِ اللُّغويّ والقرآني، وجدت أنها ظهرت في البصرة والكوفة، وهاتان القريتان كانتا منشأ البحثِ النَّحويّ الذي كان قد سبق البحث اللغوي. * و إذا قرأت في تراجم علماء العربية في هاتين المدينتين، وجدت بينهم منافسةً علميةً في البحث والكتابة، ووجدت أن علماء البصرة كانوا السابقين في التأليف النحوي بكتاب سيبويه، وفي التأليف اللغوي بكتاب النوادر، لأبي عمرو بن العلاء، وفي البحث اللغوي القرآني بكتاب مجاز القرآن، لأبي عبيدة . * وقد كان لعلماء هاتين المدينتين منهجهم في البحثِ النَّحوي، ولا يبعد أن يكون له أثر في البحث اللغوي، خاصةً أن كثيراً من علمائهما نحوي لغوي في آن واحد. * وهذا الاختلاف بينهم قد يفسر نَقْدَ الفَرَّاءِ الكوفي لأبي عبيدة البصريّ، حيث قال: «لو حمل إلي أبو عبيدة، لضربته عشرين في كتاب المجاز». * ويظهر أنَّ هذا القول إنما خرج بسبب المنافسة التي كانت بين الفريقين، وهذا النقد ـ كما ترى ـ مجمل، ولم يتبين فيه سبب نقدِ الفرَّاءِ لكتاب مجاز القرآن، وهو لما ألَّفَ كتابه في معاني القرآن كان فيه أكثر بُعْداً عن التفسير من أبي عبيدة، والله أعلم.

Use Quizgecko on...
Browser
Browser