لما كنت في المغرب الأقصى وجدت هناك كلمة.docx

Full Transcript

**عندما كنت في المغرب الأقصى وجدت هناك كلمة «طالب» يستعملها الجمهور لمن نسميه في بلدنا «عالم»، وعندي أن هذه الكلمة أصح في المعنى والدلالة من كلمتنا؛ لأنها تحمل معنى التطور والرقي، وإن أحدنا مهما بلغ من الثقافة لا يزال طالبًا يدرس ويتعلم ولا يعتقد في نفسه الكمال أو التمام.** **وما أحرانا بأن نستعمل...

**عندما كنت في المغرب الأقصى وجدت هناك كلمة «طالب» يستعملها الجمهور لمن نسميه في بلدنا «عالم»، وعندي أن هذه الكلمة أصح في المعنى والدلالة من كلمتنا؛ لأنها تحمل معنى التطور والرقي، وإن أحدنا مهما بلغ من الثقافة لا يزال طالبًا يدرس ويتعلم ولا يعتقد في نفسه الكمال أو التمام.** **وما أحرانا بأن نستعمل هذه الكلمة؛ فإن كل إنسان يجب أن يكون طالبًا طول حياته، فالطالب لا يستهتر، ولا يقرأ جزافًا.** **والفرق بين القراءة والدراسة هو أن الأولى يقصد منها عند جمهور القارئين اللهو وقضاء الوقت، أما الدراسة فتحتاج إلى مجهود بغية الانتفاع، ولكن الحقيقة أن الدراسة عادة واتجاه، إذا نحن تدربنا عليها وتعبنا في البداية لا تلبث أن تثبت؛ وعندئذٍ تصير أيضًا استمتاعًا عاليًا يعوق ما نسميه اللهو بالقراءة الجزافية.** **ونحن حين نقرأ بالقلم نشارك المؤلف في كتابه؛ لأننا نناقشه في غضون القراءة، وربما نصل إلى تفريعات ذهنية لم يصل هو نفسه إليها، وقراءتنا عندئذ إيجابية عاملة وليست سلبية عاطلة، ويجب على القارئ ألا يستسلم للوهم بأن الشعر والأدب لا يدرسان بل يُقْرآن فقط؛ فالعكس هو الصحيح، ولسنا هنا ننكر أننا حين نقرأ قصة عالمية لمثل تولستوي لا نستطيع أن نمسك بالقلم ونتابع المؤلف من صفحة إلى أخرى بالتعليق، ولكن عجزنا هنا عن التعليق ليس برهانًا على أن الأدب العالمي ليس في حاجة إلى التعليق، وأنه استمتاع مصفى كالإصغاء للموسيقى؛ لأن الواقع أن الموسيقي العبقري يستطيع أن يعلق على أي لحن من الألحان الساحرة بما يملأ عشرات الصفحات، وكذلك الشأن في التعليق على الأدب؛ فإننا يجب أن نقرأ قصة من تولستوي ونستسلم للسحر الفني كما لو كنا نصغي إلى لحن مقدس في صمت وسكون، ولكن بعد قراءة الكتاب يجب أن نحلل ونبحث كيف رفعنا الكاتب إلى السماء في هذه الصفحات.** **ويجب على من ينشد الثقافة ألا يترك كتابًا قد قرأه إلا وله عليه حكم؛ وذلك بأن يقتني كراسة لتلخيص كل ما يقرأ، حتى إذا انتهى من تلخيص كتابِ حكَمَ عليه وأثبت الوجوه التي انتفع بها منه، وهل كان يساوي الوقت والمال اللذين أنفقهما فيه أم كانت قراءته ضررًا أكيدًا، فليس في الدنيا كتاب يعلو على هذا الامتحان، فنحن نقرأ وندرس كي ننتفع ونرتفع، وكي تتسع آفاقنا الذهنية، وتتربى نفوسنا وتستنير رؤيانا ونستمتع بالدنيا، فإذا لم يكن شيء من هذا، فإننا يجب أن نأسف على قراءتنا، وأن ننصح لغيرنا بألا يقع في الخطأ الذي ارتكبناه بقراءة كتاب سخيف.** **ولو أن المؤلفين عرفوا أن القراء سوف يمتحنونهم بهذا الامتحان الدقيق، لما استهتروا في التأليف، وكذلك لو عرف المحرّرون للجريدة والمجلة أن القراء يطلبون أن ينتفعوا أو يرتقوا بقراءة ما يكتسبون لعمدوا هم أنفسهم إلى الدرس، وحاولوا ألا يكتبوا سوى ما ينفع ويرفع.** **فلتكن الدراسة - بدلًا من القراءة - عادتنا ومزاجنا، إذا شئنا أن نثقف عقولنا ونربي أنفسنا، ولتكن دراسة هادفة نعين هدفها ونقيس المسافة التي بيننا وبينها ونرتب رحلتنا حتى نصل إليها.** **كتاب \"كيف نربي أنفسنا\" - للكاتب سلامة موسى - مقال \"لا نقرأ، بل ندرس\"**

Use Quizgecko on...
Browser
Browser